ترك رحيل المغفور له بإذنه ابن العم الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي ألما كبيرا للأسرة، وإحساسا عميقا بالخسارة الفادحة التي لحقت بجميع أبنائها، الذين وجدوا فيه دائما "الناصح" و"المرشد" الأمين والمخلص، كما وجدوا فيه الوالد والمعلم والأستاذ والصديق الذي يلتمسون عنده الرأي إذا ما بحثوا عنه، والمشورة إذا ما افتقدوها.

وخسر أبناء الأسرة غازي القصيبي، بقدر ما خسره وطنه، وخسر الجميع فيه رجلا أحب عمله، وأعطى فيه بصدق، حين مزج بين حب العمل والأمانة والإحساس بالمسؤولية، مكرسا الاقتداء برجالات كبار عائلة القصيبي الراحلين لخدمة ولاة الأمر وقيادته الرشيدة، وهذا البلد الطيب جيلا بعد جيل، بدءاً من الجد عبدالله بن حسن والجد حمد بن أحمد إلى الأعمام أحمد بن حمد وسعد بن حسن وعبدالرحمن بن حسن وحمد بن محمد وعبدالعزيز بن حمد ـ رحمهم الله جميعاً بإذنه ـ إلى غيرهم من أفراد الأسرة، ولم يتوقف الأثر عند دوره كمعلم ووالد و"كبير" للأسرة، بل امتد إلى الصعيد الأدبي وهو المسكون بحلو كلامه وعذوبة عباراته ونهجه، وكلها وضع الدكتور غازي في موقعه المتميز من خريطة الأدباء والكتاب والشعراء والمثقفين السعوديين البارزين في زمننا، حتى أصبح في هذه المجالات كلها رجلا يشار إليه بالبنان، ودخل في قائمة صناع الثقافة العربية وصانعي وجدانها باعتباره واحداً من أهم رواد الفكر والأدب العربي.

ولم يكن من المستغرب أن ينطلق الدكتور غازي ليجول بين عدد كبير من المناصب من خلال نظرته المستقبلية الواسعة وإدراكه لأهمية خدمة المواطن وتحسين مستوى معيشته، تأصيلاً منه بضرورتها للمواطنة الحقيقية غير آبه بالمحسوبية أو اعتبارات المجاملة.

وقد تزعّم الدكتور غازي نهضة أدبية سعودية خالصة ودافع عنها كراع لها، ومن ثم احتضن من سار على نهجه تاركاً خلفه مجموعة ضخمة من الأعمال التي تفاعل القراء معها ومع رؤيته وبالأخص الرواية السعودية كرائد وحاضن لها بالإضافة إلى الكتب وتلك القصائد الخالدة التي مسّ بها المشاعر والأحاسيس والمواقف، لاسيما حين دافع بقلمه عن كوارث ومصائب الأمة من خلال كلماته المسكونة بالصدق والوضوح والتي خلّدها التاريخ لتظلّ شهادة حق على مواقفه الثابتة ودليلاً ناصعاً على رؤيته وجلاء فكره.

وبعد رحيل جسده عنا تجول في الوجدان أحاديث لا تنقطع عن أمانته وإخلاصه وتفانيه في العمل، وعن تفجر وطنيته من خلال أعماله وكلماته، وعن ذلك الكم الهائل من الشجون والعواطف حين كان يتصدى بقلمه وكلماته لأعداء الأمة والمتربصين بها من ضعاف الأنفس.

ولا يستطيع أحد أن ينكر وطنيته الخالصة في قصيدته:

أجل نحن الحجاز ونحن نجد

هنا مجد لنا وهناك مجد

ونحن جزيرة العرب افتداهاويفديها غضارفة وأسد

ونحن شمالنا كبر أشم

ونحن جنوبنا كبر أشد

ونحن عسير مطلبها عسير

ودون جبالها برق ورعد

ونحن الشاطئ الشرقي بحر وأصداف وأسياف وحشد

وبرغم الشهرة التي طبقت الآفاق، ربما لا يعلم الكثير شيئا عن زهد الراحل عنا جسداً والساكن فينا أدباً وكلمات وذكرى، وقد كان زهد المحبين المتفانين في العمل المتواضع تواضع العلماء الأجلاء، فالدكتور غازي رحل بكل هذه الصفات وهو لا يمتلك بيتاً لنفسه، وكان يقطن منزلاً بالإيجار، كما أنه حول إرثاً عقاريا له في منطقة من أغلى شوارع الهفوف إلى مسجد بدلاً من بيعها، لقد أدرك الدكتور غازي أنّ ثروته الحقيقية لا تكمن في منزل يملكه ولا قطعة أرض بالملايين، بل هي في أدب أبدع فيه، وفي نهج استطاع أن يسخّره للدفاع عن بلده وأمّته ومصالحها، فصنع أحرف اسمه ورسم محاور ذكراه، حين يذكره الناس في المحافل وعناوين الكتب.

هكذا وجد الدكتور غازي الثروة، فاختار أن يظل كبيراً بأعماله زاهداً في حياته، فأكرمه الله بسيرة حسنة وسمعة طيبة، ستبقى بعد وفاته.