كانت رحلة البحث عن منزل قريب من مدرستين ابتدائيتين الأولى للبنين من أجل طفلاي "المهند" و"الوليد"، والأخرى للبنات من أجل ابنتي "دنيا" تتسيد قائمة أولوياتي بعد قرار انتقالي بسبب ظروف العمل من الرياض إلى جدة، شرعت بالبحث بمساعدة زملائي وأصدقائي، وبدأت من وسط جدة باتجاه الشمال، وفي كل مرة أجد شقة تحوز على استحساني من ناحية المساحة أو السعر أجدني أعزف عنها لبعدها عن المدارس، امتد البحث لأيام وأسابيع حتى وجدت شقة جديدة لا تُكبد المسافة بينها وبين المدرسة المشقة على أطفالي، كانت هناك مدرسة في الشارع المحاذي بمسافة لا تبعد أكثر من 400م للبنين ومدرسة أخرى للبنات بمسافة 3 دقائق بالسيارة، ورغم أن موقع الشقة يبعد كثيراً عن مقر عملي إلا أنني آثرت راحة عائلتي الصغيرة على راحتي الشخصية، أخبرت زوجتي بسعادة بأن المدارس جداً قريبة من المنزل الجديد، وكانت سعادتها تفوقني، سارعت بنقل الأثاث من منزلي السابق بالعاصمة إلى شقتي الجديدة في "عروس البحر".

وما إن فتحت المدارس أبوابها بعد انتهاء الإجازة الصيفية للمعلمين حتى تقدمت بطلب نقلهم من مدرستهم في الرياض إليها، ففوجئت برفض مدير المدرسة طلبي، كان الرفض أمراً غير مقبول بالنسبة لي، قابلت رفضه بالاحتجاج بقوانين وزارة التربية والتعليم التي تؤكد بأنه من حق كل طالب أن يدرس في أقرب مدرسة من منزله، ودعمت احتجاجي بعقد إيجار منزلي لإثبات أنني من سكان الحي، إلا أنه كان أكثر إصراراً بالرفض، وحاول إقناعي بأنه صدقاً لا يوجد مكان شاغر، وبأن لديه قائمة لـ400 طالب على الانتظار وجميعهم من سكان الحي، ويرغبون بالنقل لمدرسته إلا أنه رفضهم جميعاً، وبعد أن طال بيننا النقاش، قام أحد المعلمين وصافحني وقال: "أسألك بالله لا تلوم مدير المدرسة، فأنا زميل لهم ولم يتمكنوا من قبول ابني"، نظرت حينها لمدير المدرسة ورفع يديه مستسلماً وقال: "سمعت بنفسك ووالله إنه صادق"، وطلبا مني ألا أوجه لهم اللوم بل أوجهه لإدارة التربية والتعليم بجدة التي أهملت فتح مدارس جديدة حتى استفحل الأمر وتحول إلى أزمة.

خرجت من مكتب المدير متذمراً وأشعر بالغضب، ومتحسراً على جهدي الضائع في البحث عن شقة قريبة من المدرسة، تفاقمت مشاعر الغضب والتذمر بداخلي بعد أن واجهت الرفض نفسه من مدرسة البنات لقبول طفلتي لنفس الأسباب التي تذرعت بها مدرسة البنين. اكتشفت بعد ذلك أن جيراني القدامى بالحي يعانون منذ وقت طويل من ذات المشكلة التي أعاني منها.

ابتدأ العام الدراسي الجديد ومازال أطفالي دون مدرسة تحتضنهم وبعد تفكير في الحلول البديلة لهذه المشكلة اخترت أفضل حل مناسب لظروفي، وهو أن أسجلهم في مدارس بعيدة للغاية من المنزل عكس ما خططت له؛ ولكنها قريبة من عملي ليتسنى لهم بعد انتهاء اليوم الدراسي أن يعودوا لمقر عملي وينتظرونني في استراحة الموظفين حتى أنهي عملي الساعة الثالثة والنصف مساء ومن ثم نتوجه للمنزل ولا نصل قبل الساعة 4:15م تقريباً.

أشعت مشاعر التذمر، شكوت لوالدي ووالدتي معاناتي، أتحدث كثيراً عن هذه المشكلة كلما التقيت بأصدقائي، وأصبح رفض المدرسة لقبول أبنائنا من أهم القضايا التي نناقشها أنا وجيراني، وأجريت تحقيقا صحفيا مصورا نشرته عبر صحيفة "المواطن" تبعته بمقال نشرته بذات الصحيفة.

كان الجميع يشاركني مشكلتي ويتفاعل ويتعاطف معي إلا أطفالي الثلاثة، كنت ألاحظ عليهم عدم التذمر أو الشكوى بل كانوا بالعكس مني تماماً، بينما أستيقظ صباحاً متجهماً أفكر في المعاناة التي سيتكبدونها إثر ذهابهم لمدرستهم البعيدة إلا أنهم يستقلون السيارة بسعادة، ويطلبون أشياء صغيرة كحلوى أو عصير، يستمتعون بالاستماع إلى أشرطة الـCD المفضلة لديهم، وفي اللحظة التي أشفق عليهم فيها من طول انتظارهم لي في استراحة الموظفين بعد نهاية يومهم الدراسي حتى أنهي عملي أجدهم يستغلونه في حل وحفظ واجباتهم المنزلية، واللعب بأجهزتهم الإلكترونية، حتى رحلة عودتنا الطويلة للمنزل أصبحت قصيرة بفضل سردهم لأهم الأحداث التي وقعت بمدرستهم، يطلبون مني أن أصور لهم عبارات التشجيع التي يكتبها لهم المعلمون لكي أرسلها لجدتهم عبر "الواتس أب"، أصبح الوقت الذي أقضيه معهم أكبر عكس السابق الذي كان مقتصراً على إجازة نهاية الأسبوع، أصبحت أعرف أسماء زملائهم المقربين، والقصص التي يقصها عليهم معلموهم، كل يوم يمضي أصبح فيه أقل غضباً وتذمراً وأكثر امتناناً لأطفالي.

بفضل "أطفالي" اكتشفت متأخراً أن المشكلة التي تعرضت لها ليست بالحجم الذي رسمته على خارطة حياتي، ولم تكن تستحق كل ذلك الغضب والتجهم والتذمر، تعلمت بأن أتعامل مع المشاكل التي تفرضها علي الحياة بمرونة أكبر، أن أنظر للجانب الإيجابي منها، أن أتعامل معها دائماً بروح الأطفال، وأبحث لها عن حلول دون أن أقُلق والديّ بمشاكلي، ودون أن أزج زملائي وأصدقائي بتفاصيل معاناتي.

في صغرنا واجهنا المشاكل كما يواجهها أطفالنا الآن، كبرنا ونحن نريد كل أشيائنا أن تكبر معنا، حتى مشاكلنا حينما تأتي صغيرة نغذيها بمشاعر الغضب والتذمر حتى تكبر، بينما بإمكاننا أن نبقيها صغيرة مثلما كانت في طفولتنا.