تشير العديد من الدراسات والأبحاث المتعلقة بعلم الإدارة في المملكة إلى وجود مركزية شديدة في الهياكل الإدارية تمتاز بطول خطوط السلطة بين المستويات الإدارية المختلفة نتج عنها ضعف الرقابة ووجود رؤساء متسلطين يصاحبهم مديرون تابعون وضعفاء.
كما تؤكد الدراسات السابقة على أن الموظفين الحكوميين يستخدمون مناصبهم العامة في سبيل تعظيم مصلحتهم الخاصة، والذين لا يفعلون ذلك يعتبرون أغبياء أو غريبي الأطوار!، كما لوحظ على الموظفين عدم استعدادهم لأخذ المخاطرة في صنع القرارات في مجال أعمالهم، بالإضافة إلى تجنب تحمل المسؤوليات مهما كانت صغيرة.
بالإضافة إلى ما تقدم، فإن الموظفين الحكوميين يتجنبون الصراع ويسعون دائماً إلى الحفاظ على الأمن الوظيفي لأنهم يشعرون بأن رؤساءهم سوف يستخدمون سلطاتهم تجاههم بشكل غير عادل.
النتائج السابقة في الحقيقة ليست بجديدة على واقع العمل الحكومي، والكثير من الموظفين يدركونها جيداً، وكان هدفي من طرحها في المقدمة هو الرد على الانتقادات التي توجه إلى الدراسات التي تتناول قضية الهياكل التنظيمية في الجهات الحكومية والمتمثلة في أن مثل هذه الدراسات مجرد تنظير لا أكثر ولا تأخذ مشاكل الواقع الإداري في الاعتبار.
وحجتهم في هذه الانتقادات أنه جرى تحديث هائل للهياكل التنظيمية في أغلب الجهات الحكومية ومع ذلك لم يحدث أي تغيير أو تطوير يذكر في هذه الجهات بل على العكس من ذلك، فربما زاد الفساد وزادت الفوضى الإدارية بسبب هذه التحديثات، فالخرائط التنظيمية ما هي إلا مجرد مستطيلات وخطوط مستقيمة ومتوازية لا فائدة منها، الرأي السابق لا يخلو من وجاهة منطقية، ولكن هذا لا يعني عدم وجود أهمية للخرائط التنظيمية في بيئة العمل الحكومية، فهي في رأيي أحد الأسباب الرئيسة للفوضى الإدارية الموجودة في بعض الجهات الحكومية.
فإما أنه قد تم استغلال تحديث هذه الخرائط بهدف خلق نوع جديد من المناصب الإدارية وزيادة أعداد المرؤوسين لأهداف شخصية بحتة؛ وبالتالي تجاهل الأهداف الحقيقية للجهة الحكومية، أو أنه قد تم تعطيل تطبيق الخرائط الجديدة لأنها ربما كانت غير مناسبة لبعض المسؤولين في الجهة.
في واقع بعض الجهات الحكومية نجد ممارسات تنظيمية غريبة، اعتبرها البعض نتاج الفوضى الإدارية السائدة، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك بل هذه الممارسات متعمدة استغلت المفهوم الخاطئ عن التنظيم الإداري نتج عنها الفوضى والعشوائية وليس العكس.
من هذه الممارسات على سبيل المثال: وجود أقسام إدارية ليس لها أعمال في كثير من الأحيان، وموظفو هذه الوحدات يعيشون في فراغ كبير، بالإضافة إلى وجود مديرين لا يمارسون وظائفهم الرسمية فعلياً، فقد نجد أن مسمى الوظيفة هو مدير الشؤون المالية والإدارية، ولكن في الواقع هو مدير المتابعة المكلف!.
بالإضافة إلى ما سبق، قد نجد مسميات وظيفية غير موجودة في الخريطة التنظيمية أو حتى الدليل التنظيمي، بل غير موجودة في السلم الوظيفي على الإطلاق، ومن ذلك على سبيل المثال وظيفة "المشرف العام" التي بدأت تنتشر في كثير من الجهات الحكومية، مثل "المشرف العام على الشؤون المالية والإدارية"، و"المشرف العام على الإدارة العامة للمشاريع"، وليس هذا فحسب، بل هناك أيضاً وظيفة أخرى مساندة وهي وظيفة "مساعد المشرف العام"!، وإذا أردنا البحث عن طبيعة صلاحيات ومهام مثل هذه الوظائف لن نجد سوى مجرد خطابات تكليف لا مكان لها في عمليات التفويض الإداري على الإطلاق.
والغريب في الأمر، أن تجد في بعض الجهات الحكومية مسمى وظيفة "مدير عام" محددة الصلاحيات في قرارات التفويض، تكون تابعة للمشرف العام غير محدد الصلاحيات وليس له وجود في الهيكل التنظيمي.
ومن الممارسات الأخرى أيضاً، وجود مدير إداري واحد قد يترأس أكثر من ثلاث إدارات في آن واحد، تارةً باسم المشرف العام وتارة باسم المدير العام المكلف وهكذا.
وبناء على ما سبق، قد يتساءل القارئ الكريم عن سر التوزيع الإداري السابق والسر ببساطة يكمن في رغبة البعض الانفراد بإدارة الجهة الحكومية وبهذه الصورة التي لا يدركها إلا القليل، ولأسباب عديدة قد تكون شخصية ولا مجال لذكرها هنا، ولكن تجدر الإشارة إلى أن القرارات الإدارية في ضوء تلك الممارسات ستكون مُسخرة لخدمة فئة أو جماعة واحدة يكون المناخ فيها مهيأ لانتشار الفساد.
في المجال الحكومي يلعب العرف الإداري دوراً بارزاً كمصدر للإجراءات الإدارية، الأمر الذي أدى إلى ظهور الاتجاهات الشخصية في تسيير مهام الإدارة واستحداث القواعد الحاكمة لها من آن لآخر تبعاً لتغير أشخاص المديرين أو القائمين بمسؤولية الإدارة.
ولهذا السبب استطاع بعض المديرين والرؤساء التلاعب بالخرائط التنظيمية لجهاتهم والتحايل عليها بمبررات غير منطقية، ونتيجة لسيادة العرف في العمل الحكومي خدعوا الآخرين بالقول إن هذه الأعراف تعتبر قواعد قانونية معترف بها في القضاء الإداري، متجاهلين في ذلك أنه في حال وجود قواعد قانونية مكتوبة ستلغي قانونية هذه الأعراف.
فهل تساءلنا يوماً، لماذا يتم اعتماد الخرائط التنظيمية لأي جهة حكومية من قبل لجنة عليا في الدولة متمثلة في اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري؟، وهل تساءلنا أيضاً عن سبب وجود قرار إداري لتفويض الصلاحيات؟ وماذا عن الوصف الوظيفي المعتمد في الخدمة المدنية؟.
إن السائد في بعض الجهات الحكومية أن العرف يعلو على القانون، وليس العكس، فهي تتشدق باتباع الأنظمة واللوائح أمام الرأي العام، ولكن في داخلها استباحت مخالفة القانون لأن ذلك يعتبر من حقها، فمن يشتكي أو يعترض؟، ولكن أقول لأمثال هؤلاء المديرين أو الرؤساء: ديوان المظالم لكم بالمرصاد، وننتظر الجزاءات والعقوبات في حال انحرافكم عن السلطة الإدارية التي منحت لكم من خلال الأنظمة والقوانين.