بدا واضحاً في الآونة الأخيرة وجود محاولات جادة لإعادة تعريف الفتوى. ربما لأن التيارات الاجتماعية دفعت بذلك ليتسنى لها تحديد موقفها من الأمر الملكيّ الأخير بتقييد الفتوى. لاسيما وقد أثار صدوره الجدل في التيارين السائدين معاً. جدل التيار الإسلامويّ دار حول ما إذا كان حصر الفتوى لنخبٍ منتمية للمؤسسات الرسمية بالضرورة أو لجميع النخب المؤهّلة علمياً بشكل عام، وكيف سيتم تحديد ذلك في ظلّ الحضور الملحّ لأحكام كتمان العلم في الصورة. التيار الليبرالوي، كما أوضحَت المقالةُ السابقة، دار الجدل فيه حول ما إذا كان في تقييد الفتوى تجاوز على حرية الرأي، أم أنه منعٌ لاستخدام الفتوى كأداة قمع ثقافيّ للتيارات المخالفة. في كل الحالات، هذا الجدل بين التيارات، سواء كان داخلياً بين أفراد التيار أنفسهم أو خارجياً بين التيارات وبعضها، يوشك أن يخرج قريباً من الاحتقان الطارئ والارتباك المؤقت الذي أحدثه الأمر الملكي، ويدخل في مرحلة التحليل الهادئ والواعي. ولعلّ محاولات إعادة تعريف الفتوى ثقافياً واجتماعياً وسياسياً إحدى إرهاصات ذلك. فلم نكن من قبل نطرح هذه الأسئلة على بعضنا، بل ننفعل بالفتوى بحسب ما تمثّله لنا. فالذي يراها حكماً إلهياً يتصرف على هذا الأساس، والذي يراها اجتهاداً بشرياً، أو صراعاً تيارياً، أو وصاية علمية، أو انحيازاً مذهبياً يتصرف وفق ما يتصرف به عادة إزاء هذه الممارسات.

الذي تغيّر اليوم هو أن السياسة تدخّلت. والأثر الثقافي للسياسة في السعودية هو عادة أعمق وأكبر منه في مجتمعات أخرى. ودليل ذلك ما أشارت إليه المقالة السابقة من كون التيارات في السعودية تتسابق فيما بينها لإثبات الاتفاق مع الأمر الملكيّ كما لو أنّ في إعلان هذا الموقف مبكّراً قطعاً للطريق على التيار الآخر من أن يغنم من ذلك القرار ما يعينه على تثبيت مكانته في المجتمع، وتوسيع دائرة هيمنته على الثقافة والتوجهات. الأثر الكبير الذي يحدثه كل تحرك سياسي على مواقف التيارين وحساباتهما يتجلى في هذا الأمر الملكيّ بوضوح. ونتمنى أن يكون هذا الأثر إيجابياً، فلا يزيد الصراع تأزماً ولا المواقف تشنّجاً لأنّ كل الاحتمالات قائمة. وللمتفائلين أن يروا في محاولات إعادة تعريف الفتوى انعكاساً إيجابياً للقرار، وللمتشائمين أن يروا غير ذلك. لاسيما وأنّ هذا القرار الملكيّ مرهونٌ أولاً وآخراً بمعاييره التطبيقية وآليته التنفيذية. وكم من قرارٍ إيجابيّ أفسدته أمزجة التنفيذيين وانحيازاتهم غير المعلنة. أما بالنسبة للتيارات، فالأمر مرهونٌ بقدرتها على الاستفادة من الهدنة التي يُفترض بالأمر الملكي أن يصنعها، واستغلال توقّف ذلك الصراع الديكي في إعادة قراءة المرحلة، وتجديد الخطاب، وفهم التحديات، والمراهنة على أدوات التكامل والتعددية والتغيير النوعي.

نعود للفتوى التي وضعها الأمر الملكيّ في حرزٍ مكين قانونياً، وعلى طاولة التشريح والفحص ثقافياً وفلسفياً. ما هي هذه الفتوى التي اختلف حولها المختلفون حتى استدعى الأمر تدخل القيادة العليا لحسم الموقف، وإعادة النظام إلى البيت الاجتماعي السعوديّ؟ إجابات هذا السؤال، كما سلف، متعددة حسب الرؤى الشخصية والمسبقة حول الفتوى. ولو أن الناس كانوا يملكون رأياً موحداً حول ماهية الفتوى لما اختلفوا حولها أساساً، ولما اختلفوا حول الأمر الملكي بتقييدها. وأكثر هذه الآراء تواضعاً هو رأي كاتب هذه المقالة بأن الفتوى ليست كائناً مستقلاً، بل هي مرتبطة عضوياً بشخص ما، لا معنى لها بدونه. فنحن نقول (أفتى فلان بكذا..)، ولا نقول (هناك فتوى..) وكفى. هذا يعني أنّ الفتوى ليست فكرة مستقلة تبحث عمن يقدحها، ولا حقيقة قائمة تبحث عمن يكتشفها، بل هي امتداد عضويّ لكيان ثقافي ماثل في مرجعٍ ما. أوضح الأدلة على كون الفتوى ليست فكرة مستقلة هو كونها غير قابلة للتداول خارج دائرة الثقة المعرفية التي تضعها الجماعة في صاحب الفتوى، بخلاف الأفكار التي لا تتأثر قيمتها بأهلية مطلقها أو حاملها. أفكار الفلاسفة لم تعبر التاريخ ولم تطف الأرض لأنّ صاحبها هو أرسطو أو شوبنهاور، بل ألمعيّة هذه الأفكار وجودتها منحتاها هذا الاعتبار الفلسفي والخلود التاريخي. على عكس الفتوى التي تستمدّ قوتها وسطوتها من الشخص/الفرد الذي يطلقها. ففتوى المرجعيّات الكبرى تختلف عن فتوى صغار العلماء. والناس تهاب حتى التساؤل حول فتاوى المرجعيات الكبرى فضلاً عن الاعتراض عليها، بينما ترفض دون تفكير كل ما تطلقه مرجعيات التيارات أو المذاهب الأخرى من فتاوى بصفتها خطأ محضا وضلالا مطلقا. العبرة إذن ليست بالفتوى وفحواها، بل بمطلقها ومكانته، وهذا ينفي عن الفتوى (على الأقل حسب تطبيقاتها الاجتماعية المعاصرة) صفة الفكرة المحضة. وبالتالي لا تتحقق لها استقلالية الأفكار بمعزل عن الأشخاص، ولكنها تظلّ ظلاً تابعاً لمن أفتى بها، ومرتبطة به. فإن ارتفع شأنه الرمزيّ في مجتمعه ارتفع شأن فتاواه والعكس كذلك.

الفتوى إذن ليست إلا الصدى المعرفي للأشخاص. وإذا اتفقنا أنّ الأشخاص هم قوام المجتمع، فبإمكاننا أن نجد مدخلاً لعلم الاجتماع في تحليل ظاهرة (تهافت الفتوى) من حيث إنها مرتبطة بمطلقيها ارتباطاً عضوياً. وبالتالي يمكننا القول بأن تهافت الفتوى كان نتيجة لتهافت الأشخاص. وتهافت الأشخاص كان نتيجة لعوامل عديدة يصعب تلخيصها دون إخلال بالصورة الكاملة، ولكن على سبيل المثال نذكر من هذه العوامل: التسابق على تحقيق المكاسب المعنوية السهلة التي يكفلها الانخراط في الصراع التياري، ومحاولة صعود السلم الاجتماعي اعتماداً على معايير غير أصيلة ولا نافعة، وكذلك قلق النخب التقليدية من تسارع وتيرة التغيير الاجتماعي والحضاري وخطرها على مكانتهم الثقافية، والتنافس الشديد على الشواغر القليلة في هرميّات المؤسسة الدينية، بالإضافة إلى تنامي قدرة المجتمع على إعادة مساءلة الرمزيّ والثابت في ثقافة المجتمع وتراثه.

كل هذه الأمور بدت للبعض وكأنّها أعراض خطيرة وغير مسبوقة بينما هي ليست إلا مخاضاً اجتماعياً يمرّ به المجتمع في نموه الحضاري. ونحن بدأنا مرحلة تفكيك الكتل الكبرى، سواء كانت أفكاراً أو أشخاصاً، وإعادة مساءلتها على ضوء دور أكبر للفرد في الاختيار وتقرير المصير. وهي مرحلة ليست قصيرة زمناً، ولا تصاعدية أبداً. بل تمرّ بفترات من الصعود والهبوط، والتباطؤ والتسارع. وهذا التذبذب يمنح عادة مؤشرات خاطئة للبعض، فيرون فيها انتكاسات وتراجعات لا تعكس خط النمو العام للمجتمع.