فكرة الحوار وإنشاء المركز من الجهود التي تحسب للملك عبدالله بن عبدالعزيز، بعد أن دخل العالم عصر العولمة الذي أصبحت أهم سماته الشفافية التي تتطلب وضع كل القضايا على طاولة الحوار لمناقشتها، مهما بلغت دقتها، ومهما بلغت درجة الحساسية فيها.. وعلى هذا الأساس بدأ الحوار في المملكة في أروقة المركز التي تتخذ من كافة المناطق مكاناً لها في مختلف القضايا، واختار المركز العديد من القضايا لطرحها على مائدة الحوار وتمت مناقشتها والخروج بعد كل قضية بتوصيات حول الحلول التي رُؤيَ أنها المناسبة للتعامل مع تلك القضية.

وبعد أكثر من عشر سنوات على إنشاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، أي منذ تاريخ 24/5/1424، نسأل: هل نجح الحوار في الوطن؟

الذي يظهر لنا كانطباع عام كمواطنين أن الحوار الوطني في المملكة لم يحقق كل ما كان المواطنون يأملونه منه، ليس معنى هذا أنه لم يحقق نجاحات.. لكنه يعني بالضرورة وجود انطباع عند المواطنين بكافة فئاتهم على وجود ملاحظات، ليس فقط على مجريات الحوار بل على الفلسفة التي يقوم عليها، وهنا لا بد من أن نتعامل مع قضية الحوار الوطني بشكل شفاف، بل بأعمق صور الشفافية بأن نصنع قضية الحوار وفلسفته وإجراءاته على الطاولة.

بعد مرور عشر سنوات لا بد أن نعيد النظر في قضية الحوار نفسه ونضعها على طاولة البحث بأسلوب 360 درجة، أي بشكل شمولي.. نحن في المملكة العربية السعودية بمساحتها الواسعة وتعدد المذاهب فيها، سني وشيعي وصوفي وإسماعيلي، لدينا قضايا كبيرة ومهمة وملحة، ولا بد من التعامل معها بنجاح تام يتطلب الالتفاف حولها من قبل كافة المواطنين بتعدد مذاهبهم، وفي ظني أن محاولات مركز الحوار في السابق وسعيه كي يتجانس المواطنون بتذويب الفوارق المذهبية خطأ استراتيجي في الحوار.. لأنه لا يمكن تجانس المذاهب ولا يمكن تآلف المواطنين وتجانسهم عن طريق تذويب الفروق المذهبية.. لهذا لا بد للحوار في المملكة العربية السعودية أن يتحول تحولاً كبيراً بالابتعاد عن الحديث عن المذاهب، والاقتراب من تكريس التجانس بين المواطنين على أساس المشتركات الوطنية المبنية على تكريس المفاهيم التنموية والقضايا الوطنية التي تضر بنا كمواطنين ونريد علاجها.. لا نستطيع عمل تجانس بين السنة والشيعة والصوفية والإسماعلية على أساس مذهبي، لكننا نستطيع صهرهم في صراع إيجابي حول قضايا تنموية مشتركة يتفقون عليها ويتحاورون حولها ويتعاونون على حلها.. ثم يذهب كل واحد منهم ليصلي ويعبد الله بالطريقة التي يؤمن بها ولا يمكن أن يحيد عنها، وهذا لا يضير أحداً ولا يخل بالمواطنة ولا يمنع من التجانس الذي ننشده.

نسأل أنفسنا قبل الحوار: ما المفاهيم التي نريد ترسيخها عن المواطنين جميعهم؟ أي ما الشيء النافع للوطن؟ ما الشيء الذي يرتقي بالوطن؟ ثم نجمع المواطنين على مشتركات تنموية يتفقون عليها ويتعاونون على إيجاد الحلول المناسبة لمشكلاتها.. نتفق كمواطنين مهما اختلفت مذاهبنا على الوطن وحبه والحرص على أمنه وتطويره ومناقشة المشكلات التي نعاني منها جميعاً كمواطنين كقضايا تنموية مشتركة.. نجتمع جميعنا على اختلاف مذاهبنا لنتفق على قضية الأمن، والاستقرار، والتطوير، ومشكلات الإسكان، والبطالة، والعنوسة، ومحاربة المخدرات.

نتفق على ضرورة التحول إلى اقتصاد المعرفة الذي يشكل الآن 50% من اقتصادات العالم الأول المتقدم، ونبحث في بدائل الطاقة المستديمة مثل الطاقة الشمسية والرياح والأمواج والتناضح العكسي، وكيفية نقل الوطن من الاعتماد على مصدر اقتصادي واحد سينضب يوماً ما إلى مصادر مستديمة لا تنضب.

يجتمع كافة المواطنين على اختلاف مذاهبهم، يتحاورون ويتعاونون على مناقشة هذه القضايا التي ستحقق للوطن مستوى لا نحلم به من التجانس والالتئام واللحمة.. يجب أن نبتعد كثيراً عن الحوار الذي يوجب التنافر ويحول دون التجانس بين أبناء هذا الوطن الكريم.. الولايات المتحدة الأميركية تسمي نفسها "البوتقة المنصهرة" Melting Pot "، ليس فقط لتعدد المذاهب بل لتعدد الأديان والأعراق والمشارب، وأوروبا مواطنوها لا يجمعهم دين ولا لغة ولا مذهب.. يختلفون في كل ذلك ومع ذلك يتدافع المواطنون في هذه الدول ويتنافسون ويخترعون وينجزون على أساس متين قوامه أمن أوطانهم الذي يحققه بعد الله، اقتصاد متين قوي يقوم على تجانس كل أفراد الوطن على أساس المشتركات التنموية لا على أساس تذويب الفوارق المذهبية أو العرقية أو القبلية أو الدينية.. بل إن القوانين تحرم التفريق بين المواطنين بناء على أي اعتبار من ذلك.

لا بد لمركز الحوار أن يحدث تحولاً كبيراً يحقق به تكريس المواطنة على أساس المشتركات التنموية في الحوار كاستراتيجية يعتمد عليها في اللقاءات والإجراءات إذا أردنا أن نحقق التجانس بين المواطنين على أعلى مستوى ننشده. هذا كهدف قريب.. أما على مستوى الأهداف البعيدة فلا بد أن يتدخل التعليم في تكريس المفاهيم التي نريد ترسيخها عند المواطن القائمة على المشتركات التنموية التي تكفل لجميع مواطني بلادنا التجانس الذي نريده على المستوى الذي نرضاه.. وهذا لا يمنع أن نعلمهم أمور دينهم وغرس العقيدة في نفوسهم وهذا لا يتعارض مع استراتيجية الحوار الجديدة التي نطرحها هنا.