من المصطلحات التي تستهويني جداً "الثقافة"، وسبب هذا الاهتمام غير العادي هو أني أحياناً أحتاج أن أسأل نفسي ما المراد بـ"الثقافة" في هذا السياق؟ فمثلاً صفحات "الثقافة" والأدب التي تعنى بأخبار "المثقفين" والأدباء والشعراء والرواة: كتبهم، معارضهم، أشعارهم، خلافاتهم وصراعاتهم الأدبية، هل هي فقط من يتحدث رسمياً عن "الثقافة"؟ وأحاول أن أدعي "الثقافة" فأقرأ مقالاً طويلاً هو نقد لرواية مثلاً أو وجهة نظر في قضية "ثقافية" معينة، وألزم نفسي بالقراءة حتى النهاية، فأجدني لم أفهم شيئاً، فأقول لعلي لم أركز، فأعود لأقرأ مرة أخرى تفكيكات الوضع المعقد في أبعاد المجهول الذي ينتهي في أفق المستحيل، فما تلبث أن تصيبني نوبة نعاس أو تثاؤب أتذكر معه كتب الكيمياء الحيوية في كلية الطب! أقول لنفسي تسلية إنني طبيب استشاري لي وجاهتي الاجتماعية في المجالس، ويقولون عني: إنني من طبقة "المثقفين"، أعود أسائل نفسي: هل حصول الإنسان على شهادة عليا في تخصص ما كفيل بأن يقحمه في عالم "المثقفين"؟ ولكني قرأت لتوي لـ"مثقفين" فما فهمت شيئاً! ومما يزيد حيرتي أني أقرأ عن غياب "الثقافة" الرياضية في صفحة الرياضة، فأقول هل يجب أن ننشر هذا المقال الرياضي في صفحة "الثقافة" والأدب بدلاً من الرياضة؟ وأكثر من ذلك أن تجد شخصاً حسن المظهر، أنيقا، يجيد فن الحديث، لبقا، فتسمع الناس تقول عنه إنه "مثقف"! أو تجد الآخر الذي يرص لك المعلومات رصاً مع أرقام وإحصائيات، وتأتي عبارات الناس مادحةً "ثقافته" الواسعة.

ولنستتبع هذا الحوار، فمن ضمن ما قرأت من تفاسير لقوله تعالى في سورة يوسف: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه)، انتشار "ثقافة" القيل والقال والشائعات، "ثقافة" الطبقة الأرستقراطية التي لا هم لها إلا لوك الألسن في الفراغ، فبعد الجرم العظيم من تغليق الأبواب، والفضيحة أمام سيدها العزيز لدى الباب، تجد الخبر مباشرة ينتشر سريعاً بين نساء المدينة، من نشره؟ لعل امرأة العزيز نفسها تكلمت؟ لم يذكر النص القرآني من هذا شيئاً، بل تسمع غمزاً ولمزاً من نساء المدينة يصل إلى مسامع امرأة العزيز مرة أخرى.

وهناك من المؤلفين والكتاب من أطلق بعضاً من أنواع الثقافات كالثقافة الانتظارية: (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)، سورة المائدة/24، وثقافة الاستبداد وصناعة الاستبداد: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين) سورة الزخرف/54، وثقافة الكلالة، وبنفس الاستخدام نستطيع أن نتحدث عن ثقافة الإتقان، وثقافة السلام، وثقافة العمل الصالح في القرآن، هل نعد إذاً استخدام لفظ "ثقافة" على مجموعة من الأفكار والمفاهيم والسلوكيات استخداماً صحيحاً؟ هل يمكن أن نطلق مصطلحات من مثل: "الثقافة" السياسية، و"الثقافة" الاجتماعية و"ثقافة" الاستهلاك؟

ومما زاد في حيرتي وأنا أطرح هذا التساؤل أن التوافق في تعريف "الثقافة" قد استعصى على العلماء والمفكرين والفلاسفة، ولعل أقدمها كما جاء في كتاب نظرية الثقافة من منشورات عالم المعرفة، تعريف إدوارد تايلور عام 1871: "كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات، والفنون والأخلاق، والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع"، وتبع هذا تعاريف كثيرة جعلت بعض العلماء يركز على اتجاهين واضحين، أحدهما ينظر للثقافة على أنها تتكون من القيم والمعتقدات وغيرها من المنتجات العقلية، أما الاتجاه الآخر فيربط الثقافة بنمط الحياة الكلي لمجتمع ما، وذلك بمنزلة قناة الاتصال التي تربط بين الفكر والسلوك.

وحين وقفت على تعريف الثقافة الذي اعتمدته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ضمن كتاب (أزمة النخب العربية "الثقافة والتنمية) للدكتور حسن مسكين بأنها ذلك "النتاج الذي ينتظم جماع السمات المميزة للأمة، من مادية وروحية وفكرية وفنية ووجدانية، وتشمل مجموعة من المعارف والقيم والالتزامات الأخلاقية المستقرة فيها وطرائق التفكير والإبداع الجمالي والفني والمعرفي والتقني وسبل السلوك والتصرف والتغيير، وطراز الحياة. كما تشمل أخيراً تطلعات الإنسان للمثل العليا، ومحاولته إعادة النظر في منجزاته والبحث الدائم عن مدلولات جديدة لحياته وقيمه ومستقبله، وإيداع كل ما يتفوق به على ذاته" أدركت أنها بهذا العمق وهذا البعد، وجال في خاطري هل يجب أن نتردد إذاً قبل أن نطلق لفظ "مثقف" على من كل من هب ودب؟ إنها نظرة قاصرة ومبتورة أيضاً أن نقصر الثقافة في حدودها الأدبية، لأنها بهذا المعنى القاصر كما يذكر الدكتور أسامة عبدالرحمن (نقلاً عن كتاب أزمة النخب العربية) لن يكون لها دور مباشر وفعال في التنمية، وأن المثقفين ضمن هذا الإطار ينتظر منهم أن يكونوا بمعزل عن التنمية وأن عطاءهم الإبداعي هو غاية في حد ذاته وليس من الضروري أن تكون محصلته ذات دور في التوعية المجتمعية أو التنمية الشاملة.

بل إن بعض هؤلاء "المثقفين" يمارس دوره (كشرطي للأفكار) على حد تعبير الدكتور علي حرب في كتاب نقد المثقف: (معظم المثقفين العرب لا يزالون غارقين في سباتهم الأيديولوجي، لا يحسنون سوى نقض الوقائع لكي تصح مقولاتهم ونظرياتهم. إنهم يرون العلة في الواقع لا في الأفكار أو في أنماط الفهم أو في طريقة التعامل مع الحقائق...كانوا فعلاً بدكتاتوريتهم الفكرية بمثابة "شرطة للأفكار"). ولا أدري إن كان حقاً باستطاعتنا إطلاق لفظ "مثقفين" على هؤلاء؟

بل إن ظاهرة قراءة النص القرآني من خلال المسابقات "الثقافية" والتاريخية ستجعلنا أسارى دائماً لنمط "ثقافي" معين هو خارج عن الواقع بعيد عن الفاعلية، وسيبقى ذلك عائقاً أمام صياغة قرآنية حديثة لنظامنا "الثقافي" والسلوكي كما يذكر الدكتور محمد يتيم في (في نظرية الإصلاح الثقافي) الذي يطرح فيه رأياً جريئاً ونقداً صريحاً لجمع من المفكرين كالجابري وبرهان غليون حين يسعون إلى "تحديث العقل" ولا يلتفتون إلى الفشل في "تحديث الثقافة"، ولكن أي "ثقافة" نرجو؟