تجاهل ملايين المصريين كل شيء، وانشغلوا بصورة وزير الدفاع المصري المُشير عبدالفتاح السيسي مرتديا الملابس المدنية، يرافقه وزير الخارجية في زيارة لروسيا، وراحوا يتحدثون عن مغزى ارتداء المُشير تلك البذلة الأنيقة التي بدا فيها يحمل سمت "الرئيس"، واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعية ـ التي باتت مؤشرا لا يُستهان به لقياس الرأي العام ـ للاجتهاد في تفسير مغزى "بدلة السيسي"، بين قائل إنها تحمل رسالة بأنها زيارة سياسية وليست مجرد مهمة عسكرية لوزير الدفاع.

آخرون ربطوها بفتور العلاقات بين القاهرة وواشنطن عقب عزل الرئيس السابق المنتمي لجماعة الإخوان، التي رفضت أميركا قرارا مصريا باعتبارها "منظمة إرهابية"، إضافة إلى تقليص المساعدات الأميركية لمصر، ليضفي غضبا شعبيا ضد سياسة واشنطن حيال مصر، ففي الوقت الذي يفترض أن تُعزز فيه السياسة الأميركية خطوات الحكومة الموقتة نحو الديموقراطية، تأتي هذه المواقف لتدعم موقف جماعة الإخوان التي تتهمها السلطات المصرية بممارسة "العنف المنهجي"، لهذا فإن المصريين يتساءلون: لماذا تتصرف واشنطن على هذا النحو الذي يدفع القاهرة للاتجاه شرقا، ليس بالضرورة لاستبدال الروس بالأميركيين، بل يدفع القاهرة لبناء منظومة توازنات لعلاقاتها الدولية تقوم على المصالح المشتركة والندية.

رسميا أعلن المتحدث باسم الجيش المصري، أن السيسي ووزير الخارجية سيبحثان "العلاقات الثنائية والتعاون مع نظيريهما الروسيين"، لافتا إلى أن الزيارة رد "للزيارة التاريخية" التي قام بها وزيرا الدفاع والخارجية الروسيان للقاهرة في 14 نوفمبر الماضي، التي أعلنت بعدها روسيا تزويد القاهرة بأنظمة دفاع جوية وطائرات ومروحيات، في صفقة عسكرية تكفلت السعودية والإمارات بدفع تكلفتها دعما للمسار السياسي والاستقرار بمصر.

وبقراءة للمشهد الإقليمي، تبدو واضحة رغبة روسيا في تعزيز العلاقات الثنائية، والدور الذي تلعبه إقليميا، وطموحها بأن تكون جزءا من ترتيبات المنطقة، تدعمها حزمة مزايا نسبية، كتبنيها مواقف قريبة من المواقف العربية بالقضية الفلسطينية، لكن تبقى مواقفها تجاه سورية "حجر عثرة" لتحقيق التناغم الكافي مع دول مجلس التعاون، لكن ها هو صقيع موسكو يتحول لإرهاصات دافئة، ستُفضي إلى نظام دولي جديد غير ثنائي أو أحادي القطبية، بل متعدد الأقطاب.

ثمة أمر ينبغي التأكيد عليه، وهو أنه على الرغم من التقارب المصري ـ الروسي، لكن هذا لا يعني القطيعة مع واشنطن، فكما سمعت من مسؤولين، فإن كافة دول المنطقة بصدد إعادة حساباتها الإقليمية والدولية، في ظل التحولات الدرامية التي تشهدها الدول العربية، سعيا لإعادة هيكلتها بدءا بالتقارب المصري الصيني الروسي، وتنويع التعاون مع القوى الدولية دونما تحيز لطرف بعينه.

حتى على صعيد الداخل المصري، فهناك من يتحدث عن "التجربة الروسية" كمصدر إلهام للسيسي، الذي استجاب لرغبة غالبية المصريين لترشحه لانتخابات الرئاسة، متماهيا بذلك مع "تجربة بوتين" في حكم روسيا بالانتقال من "الشمولية السوفيتية" لنموذج مقبول مرحليا كخطوة للأمام.

ملايين المصريين أبهرتهم "كاريزما" السيسي، المدعومة بشعبية الجيش المرتفعة بعد الإطاحة بمرسي وجماعته، وتصديه للأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية، والبحث عن "قائد قوي" وفق نظرية مفادها أن حركة المجتمع تتجاوز السياسيين وحساباتهم المعقدة، جعلت السيسي خيار البسطاء والحكماء، كما أسمع وأرى مصريين من مشارب وأجيال شتى تعدّه "رجل المرحلة" بامتياز.

هؤلاء أنفسهم يرونها فرصة تاريخية لإنهاء "علاقات الإملاءات" بالإسراع في تفكيك وتركيب الحسابات الدولية المستقبلية، دون قطيعة مع أميركا وفض التحالف الاستراتيجي بينهما، فما زالت واشنطن لاعبا محوريا بالمنطقة، ولديها تأثير على ملفاتها، لكن ربما أقدمت القاهرة على التقارب مع موسكو رغبة في استعادة القدرة على المناورة، وتعدد الخيارات الداعمة للقرارات الاستراتيجية، فقد ثمنت مصر الموقف الذي اتخذته روسيا مما حدث في 30 يونيو، الذي عدّته موسكو شأنا داخليا، ودعت لاحترام الإرادة الشعبية.

تبقى أخيرا الحسابات العسكرية، ولدى موسكو ما تقدمه لمصر، وأهمها منظومة الدفاع الصاروخي (S300) التي ستحيد المنظومة العسكرية، وكذلك تطوير معدات قديمة بالجيش المصري، وهذا سلوك مارسته القاهرة مع دول كفرنسا والأرجنتين، لكن المسألة الأكثر أهمية في هذا المضمار، فهي التعاون الروسي المصري النووي في برنامج مصر النووي الذي بدأ بالفعل، وهذا أمر يطول شرحه وسنتناوله بقراءة تفصيلية في مقال لاحق.