هناك من التجارب العالمية ما يمكن الاستفادة منه، فنحن اليوم نعيش القرية الكونية التي يعد من أهم إيجابياتها انكشاف المعرفة والتجارب وسهولة الاستفادة منها، ومن ضمن تلك التجارب في هذا السياق ما تطرحه الولايات المتحدة الأميركية سنوياً ضمن "برنامج الهجرة العشوائية" أو ما يعرف باسم قرعة الـ"غرين كارد"، التي لا تتطلب أكثر من تعبئة طلب إلكتروني وكثير من الحظ. خمسون ألف بطاقة خضراء عن طريق السحب تحت مسمى تأشيرة التنوع يتم منحها عن طريق تنظيم قرعة سنوية يشارك فيها مواطنون من دول تتميز بقلة عدد مهاجريها إلى الولايات المتحدة، والمقصود بالتنوع هو التنوع الثقافي بهدف تعزيزه ليدخل المجتمع في تدافع ثقافي مستمر مثمر وبناء يدفع بعجلة الابتكار والإبداع إلى الأمام بشكل مستمر، حتى إن الحاصلين على هذه التأشيرة يمكنهم التقدم للحصول على الجنسية الأميركية دون أن يفقدوا جنسيتهم الأصلية.
التنوع الثقافي قد يكون باللغة والملابس والأطعمة والفنون والمعتقدات والأفكار وأساليب التفكير والقيم والمفاهيم والعادات والتقاليد وغير ذلك كثير، وهو من وجهة الدول النامية تنوع غير مرغوب به، حيث دائماً ما ترغب وتعمد هذه الدول لتقليل التنوع ومحاولة لإضفاء لون ثقافي واحد على كافة أطياف المجتمع وإن كان الأمر مستحيلاً، والسؤال لماذا تفكر الدول الكبرى والمتقدمة بالتنوع الثقافي وتحترمه وتحفزه وتترجمه إلى تجنيس أفراد مختلفين عما هو سائد بتلك الدول من لغة ودين ولون وثقافة.
القاعدة بسيطة فالتنوع يولد "الصراع" أو يولد ما يسمى بالمصطلح الشرعي "التدافع" بين مختلف الأطياف المتنوعة، وهذا الصراع أو التدافع يقوم على المنافسة بصورة أو بأخرى، والمنافسة تولد الابتكار والإبداع متى ما كانت في أطر قانونية تحقق فوائدها وتحد من مضارها، حيث تسمح القوانين بالصراع الإيجابي القائم على احترام الآخرين وآرائهم ومعتقداتهم ويجرم الصراع السلبي القائم على التطرف والتعصب والازدراء واحتقار الآخر، وهذا هو الحاصل بالولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الدول الأوروبية الغربية، التي حقق لها الوافدون نجاحات باهرة، والمثال العلماء الأجانب الكثر الذين يحققون للغرب جائزة نوبل، والعلماء الأجانب الذين أوصلوا الغرب إلى ما وصل إليه وحافظوا لهم على مكانتهم بفعل استمرار الغرب في سياسة الاستقطاب والتجنيس. وحتى على مستوى كرة القدم فما نذكره جميعا - خصوصا أننا متابعون لهذه اللعبة الشعبية - هو تحقيق فرنسا لكأس العام على يد لاعبين معظمهم مهاجرون ومنهم الجزائري زين الدين زيدان.
لا نطمح أن نصل لما وصلوا إليه من قدرة على استيعاب التنوع الكبير ولكن نطمح على أقل تقدير أن نستوعب التنوع الاجتماعي والثقافي والفكري بين مختلف مكونات وطننا الغالي، وأن نضع هذا التنوع في بوتقة صراع أو تدافع تنافسي في أطر إيجابية تعزز في محصلتها قدرة المجتمع على قبول الآخر والعمل المشترك الجماعي في مساحات التنمية التي يتفق عليها الجميع، بمعنى أن تتنافس كافة أطياف المجتمع على الريادة والابتكار والإبداع في مجالات التنمية التي تنهض ببلادنا لتكون بيئة مثلى للمعيشة الهانئة بخدماتها الصحية والتعليمية والإسكانية والترفيهية وخدمات البنى التحتية والعلوية وبمنشآتها الاقتصادية التي تستوعب كافة الطاقات بما في ذلك الطاقات الإبداعية وتمكنها من إطلاق طاقاتها لخدمة ذواتها والوطن معاً.
ولا يخفى على أحد الصراع الفكري الحاد القائم في بلادنا وما يترتب عليه من مواقف وتصرفات تجاه جملة من القضايا المحلية والدولية، ولعل الصراع الفكري في بلادنا ولربما في العالم العربي كافة هو صراع متطرف لدرجة كبيرة، حيث يلاحظ وبشكل جلي رغبته باحترام رأيه واتخاذ المواقف والقرارات بموجبه وبرغبته أيضاً بعدم احترام رأي الآخرين ووصمهم بالوصمات التي تدعو لنبذهم ومعاقبتهم نظاميا، وهو أمر يشير بصورة جلية لصراع أو تدافع غير صحي ومخالف لأبسط قواعد ديننا الحنيف، الذي رفض الإكراه حتى في قضية الإيمان بالله "لا إكراه في الدين فقد تبين الرشد من الغي".
وأعتقد أن الحال ينطبق على الصراع بين المناطق والمذاهب والأعراق، فكما يبدو لي أن التطرف في الصراع هو سيد الموقف وأن مبادئ وقيم ومفاهيم التعايش السلمي البناء تعاني من الضعف والغياب أيضاً ولطالما لاحظنا من يدعو وبحماس لإنصاف من يقعون في دائرته الفكرية أو الدينية أو الطائفية أو الجغرافية، يدعو وبنفس الحماس لعدم الإنصاف مع الآخرين بل ويؤلب الرأي عليهم في كثير من الأحيان، الأمر الذي يظهر بجلاء غياب قيمة الإنصاف وطغيان المصالح على المبادئ.
أجزم بأن الجميع حريص على سلامة نفسه وسلامة المجتمع وسلامة الوطن وحريص على السلم الاجتماعي كما أجزم بأن الجميع حريص أيضا على تنمية بلادنا في كافة المجالات والتقدم بها لمصاف دول العالم الأول اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ورياضيا وفي كافة المجالات، وأجزم بأن كل فئة من فئات المجتمع تظن أنها تحسن صنعا وأنها الأجدر لهذه المهام وأن الفئات الأخرى تقف حجر عثرة في طريقه ومسلكه النبيل، ولكن الواقع يقول إن الجميع هم الأجدر إذا وضعوا في بوتقة تدافع سليمة قادرة على استخراج أفضل ما لديهم حتى يصبح هذا المسلك ثقافة تتخذ من الوطن ومصالحه وأمنه والحفاظ عليه وتطويره الهدف الأخير.
أعتقد أن مركز الحوار يمكن أن يلعب دوراً مهماً ومحورياً بل وحيوياً أيضاً في إدارة التدافع الذي لا يجب إنكاره أو العمل على القضاء على جذوته، وذلك كمسار استراتيجي يهدف في محصلته لتفعيل دور التدافع في تسريع عجلة التنمية في كافة مجالاتها.
بكل تأكيد يمكن لمركز الحوار أن يؤسس لصناعة حوار بخطوط إنتاج حوارات مستمرة، حيث يوجد حوار قائم وآخر في طور الفكرة وآخر في بداية الإعداد ورابع في نهاية مراحل الإعداد، وهكذا حوارات مستمرة لكافة فئات المجتمع لإعادة تشكيل وعي النخب أولاً والرأي العام ثانياً للوصول لمرحلة التدافع الإيجابي الذي يدفع بعجلة التنمية للأمام، بدلا من أن يعيقها، وكلي أمل بالقائمين على مركز الحوار أن يجعلوه مكونا أساسيا من مكونات التنمية والمحافظة على مكتسبات الوطن. وإذا كنا في الماضي في حاجة إلى هذا فإننا اليوم في هذا العالم المضطرب المتناقض الخطير أشد حاجة إلى مثل هذا الفكر، يجب أن يخرج الحوار الوطني من الطرق والأساليب التقليدية وينتهج طرقاً وأساليب أكثر تعقيداً لكنها أكثر فائدة وتعطي للحوار الفاعلية التي نقطف بها ثمرة يانعة ناضجة طيبة المأكل.