المطّلع على البحوث والدراسات المكتوبة عن الحوار في السياق الثقافي السعودي، سيلاحظ كما هائلا من التركيز على إظهار وبيان وجود الحوار في التراث الديني قبل مئات السنين. ستعثر على عدد كبير من الدراسات عن الحوار في القرآن والسنة وتاريخ الصحابة. في المقابل، هناك كم هائل من الدراسات عن الدعوة في الإسلام ومناهجها وطرقها. ستجد أساليب الدعوة في القرآن والسنة وحياة الصحابة والسلف ومن هذا القبيل. في كثير من الأحوال ما يقال عن الدعوة هو ما يقال عن الحوار أو بعبارة أدق يظهر الحوار هنا على أنه وسيلة من وسائل الدعوة. هدف هذا المقال هو فحص مفاهيم الحوار والدعوة والعلاقة بينهما.
في البداية سأسجل ملاحظة على الاستعمال القرآني للحوار الذي أعتقد أنه لا يتوافق مع استعمال كثير من الباحثين عن أسس الحوار في الأصول الدينية. في القرآن لم ترد كلمة "الحوار" ولكن ورد فعل الحوار "يحاور" والمصدر "تحاور" في ثلاثة مواقع. الاستعمال الأول ورد في الآية "?وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أَنا أكثر منك مالا وأَعز نفرا?.الكهف:34 الاستعمال الثاني ورد في آية "قال له صاحبه وهو يحاوره أَكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا?.الكهف:36 والثالث ورد في الآية "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلَى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير?.المجادلة:1. يمكن أن نلاحظ في هذه الاستعمالات الثلاث أنها وردت لوصف نقاشات بين طرفين من الناس، وهو غير مرتبط كما في الآية الأولى والثانية بكون الشخص على موقف حق أو باطل. بمعنى أن وصف الحوار أطلق على سلوك الاثنين بنفس القيمة رغم أن السياق يذكر الأول على أنه خاطئ ومغتر بماله وجاهه والثاني على أنه محقّ ومذكّر لصاحبه بضعفه وطور تخليقه. في الاستعمال الثالث ورد لفظ الحوار كمرادف للجدل أو كوصف للنقاش الذي دار بين الرسول من جهة وخولة زوجة أوس بن الصامت، وكانت خولة فيه تدعو الله أن ينزل حكما جديدا في قضية الظهار. هذا الحوار الذي انتهى بتحقق مراد الزوجة للعودة لزوجها بعد شبهة الطلاق بينها وبينه.
النقطة الجوهرية هنا هي أن الاستعمال القرآني للحوار ورد في ثلاثة مواقف؛ كان أولا: بين أفراد على مستوى متساو كما في الآيتين الأولى والثانية. بمعنى أنها حوارات بين شخص وشخص آخر بدون تفاوت أولي في المنزلة. في الآية الثالثة: رغم أن الحوار بين النبي من جهة وخولة من جهة إلا أنه كان جدلا بمعنى أن خولة كانت تناقش وتحاج في قضية لم تكن محسومة بالنسبة لها وحسمت لاحقا في آيات لاحقة. هذه نقطة مهمة لفهمنا للحوار. نلاحظ هنا أن القرآن لم يصف مثلا الحديث بين الله وإبليس أو بين الله والملائكة أو بين الله والأنبياء بالحوار. الأفعال المناسبة هي الأمر، النهي، القضاء، التنزيل، الوحي.
هذه النقطة مهمة لتوضيح معنى أساسي للفرق بين الحوار والدعوة أو الحوار والأمر والنهي. ليس كل كلام بين طرفين حوار. الحوار يحتاج إلى أن يكون موضوع الحوار مفتوحا وغير محسوم؛ بمعنى أن هناك إمكانية لشيء جديد ومختلف. نجد هذا واضحا في مثال خولة حيث أصرّت على طلب إعادة مراجعة وصف ما حصل بينها وبين زوجها ليتحول من ظهار يفرّقهما للأبد إلى خطأ يمكن جبره بكفّارة أو تعويض. في المثالين الأولين نقطة جوهرية وهي أن المتحاورين على درجة اعتبارية واحدة بمعنى أن أحدهم لا يدخل الحوار بسلطته التي تحسم الحوار. بعنى أن الحوار لا يُحسم بسلطة أحد المتحاورين بقدر ما ينشأ ويستمر على طاقة إتاحة المساحة لكل طرف بالمشاركة والاختلاف والرفض أو القبول.
مما سبق يمكن القول: إن تعميم وصف الحوار التي يطلقها كثير من الباحثات والباحثين على كل حديث بين طرفين يفتقد للدقة وتختفي معه القيمة التي تميّز الحوار عن غيره من أشكال التواصل. الحديث بين طرفين قد يكون أمرا ونهيا وقد يكون توجيها وقد يكون عتابا وقد يكون دعوة وقد يكون تعليما..الخ. الحوار في المقابل، حالة خاصة من التواصل تتطلب الإقرار بانفتاح موضوع الحديث من جهة لإمكانية جديدة وتتطلب الشعور بأن الحديث لن يحسم باستعمال سلطة من أحد الأطراف.
الداعية هنا أمام إشكاليتين تفصلان السلوك الذي يمارسه عن الحوار. أولاهما: أنه لا يمكن له إنشاء حوار مع الآخرين وموضوع الحوار بالنسبة له محسوم ومنته، وكل وجهة نظره تخالفه تعد باطلة وخالية من الصلاحية. هذه إشكالية يواجهها الداعية الديني والأيديولوجي بشكل واضح، وهي ما تؤدي غالبا لفشل هؤلاء في الدخول في حوارات حقيقية مع الآخرين. لا يعني هذا بالطبع أن يعود الفرد لحالة الصفر في كل حوار ويتخلى عن أفكاره ولكن المطلوب أن يدرك حق الآخر في الاختلاف وإمكانية أن يكون اختلافه مؤسسا على نظرة لها معقوليتها ووجاهتها. الإشكالية الثانية التي يواجهها الداعية: هي حضوره في علاقة تساوي مع من يتحدث معه. حضوره كموجّه وناصح وهاد للطريق السليم يقطع طريق الحوار. الحوار يتطلب إدراكا للآخر على أنه عضو فاعل ومنشئ أساسي لحالة الحوار والتواصل. الانطلاق من تراتبية ناصح ومنصوح، داع ومدعو، موجِّه وموَجَّه، تحوّل العلاقة إلى أي شيء آخر عدا أن تكون علاقة حوار. يرتبك الدعاة كثيرا حين يعلن الناس اختلافهم معهم وحين يبدؤون في عرض وجهات نظر مختلفة. في كثير من الحالات يقطع الداعية حالة الحوار المزعومة ويعود إلى الهجوم أو التهديد أو التخويف. بمعنى أن يستعمل السلطة التي لم يتخل عنها أبدا. تسليم هذه السلطة هو جوهر الحوار ومضمونه الأساسي.