تلعب الأنظمة واللوائح دوراً هاماً في عملية اتخاذ القرارات الإدارية، إذ تحدد صلاحيات المديرين ومسؤولياتهم، وتحدد السياسات التي يجب الالتزام بها عند اتخاذ قراراتهم.
فإذا كانت القرارات الإدارية تعد جوهر عمل القيادة الإدارية، ونقطة الانطلاق بالنسبة لجميع النشاطات والتصرفات التي تتم داخل الجهات الحكومية وخارجها، فإن الأنظمة واللوائح تُعد الوسيلة لمباشرة هذه الوظيفة الإدارية وولاية إصدارها.
فالقرار الإداري يُعد جزءا من السياسة العامة للدولة، وحتى يضمن المديرين فاعلية القرار، لا بد أن يأخذوا في الاعتبار الالتزام بالأنظمة واللوائح، وقواعد الشكل والإجراءات التي تضعها هذه الأنظمة، التي أثبتت التجارب مدى جدواها في حماية مصلحة الموظفين ومصلحة المجتمع.
وبالتالي فإن الأنظمة واللوائح قد تكون أداة فعالة في سبيل اتخاذ قرارات سليمة تحقق أهداف الإدارة، وفي نفس الوقت قد تكون مظلة للإجراءات والأعمال غير المشروعة، إذا ساء تأويلها وتفسيرها!، ومن هنا تبرز مشكلة الخطأ في تفسير الأنظمة واللوائح.
في الواقع العملي، يشتكي العديد من المواطنين من إعاقة معاملاتهم وتعطل مصالحهم بسبب تفسير خاطئ للنظام من قبل موظف صغير "محدود الفهم"، كما تشير بعض الدراسات والأبحاث في هذا المجال إلى أن غموض الأنظمة واللوائح وكثرة التعديلات عليها أدّت إلى الاجتهادات الشخصية في عملية اتخاذ القرارات الإدارية، وهذا ما يفسر كثرة الشكاوى والتظلمات من قبل المراجعين والموظفين على حد سواء.
أما على مستوى قضايا الفساد والمخالفات أو الخطأ في تطبيق القرارات والتعليمات، فإن بعض المديرين والمسؤولين في الجهات الحكومية يلجؤون إلى تفسير وتأويل الأنظمة واللوائح على الوجه الذي يبرر مخالفات جهاتهم بحجج وأسباب مختلفة يعدها البعض تجاوزا صريحا لسلطاتهم وتعطيلا لنصوص الأنظمة والتعليمات الصريحة.
لا شك في أن للإدارة في الجهة الحكومية الحق في تفسير النصوص النظامية، حتى تستطيع ممارسة أعمالها وأنشطتها، إذا ما شاب النص غموض يجعله يحتمل التأويل ولكن الإشكالية هنا تتمثل في تعمد إدارة الجهة التفسير الخاطئ للنصوص الواضحة بهدف التحايل على الأنظمة، على الرغم من أنها على درجة من الوضوح لا تقبل الخطأ في التفسير، وبالتالي تسعى إلى تحقيق أهداف غير التي حددها المشرّع لإصدار القرار وهو ما يسمى في القضاء الإداري "الانحراف في استعمال السلطة".
وبناءً على ما سبق، أطرح الأسئلة التالية: متى يكون تفسير الأنظمة مشروعا؟ وكيف نستطيع الحكم على مستوى وضوح أو غموض نصوص الأنظمة؟ وكيف تكون الإدارة متعمدة في التفسير الخاطئ للنظام بهدف التحايل؟
يقول فقهاء القانون الإداري: "حتى تصل الإدارة إلى غاية التفسير يجب عليها الوصول إلى معنى النص المتفق مع روح التشريع".. أي بمعنى أن تتبع "الأصول العامة للتفسير التي استقر القضاء على ضرورة التزام الإدارة بها"، ومن هذه الأصول: أن يكون تفسير النص بناءً على ما يقتضيه المعنى الاصطلاحي وليس اللغوي، ومراعاة التعديلات أو التشريعات الجديدة، بالإضافة إلى التعرف على أهداف الأنظمة التي من أجلها صيغت النصوص، والالتزام أيضا بتفسير النص القانوني الصادر عن القضاء الإداري وعلى رأسه ديوان المظالم، حتى ولو كان هذا التفسير يخالف حرفية النص.
فإذا لم تراع الإدارة أياً من الأصول السابقة فإنها تكون قد أخطأت في تفسير النصوص النظامية، وليس هذا فحسب، بل يعد فقهاء القانون بأن إعطاء معنى آخر لنصوص النظام يؤدي إلى "خلق قاعدة قانونية جديدة، لم يأت بها المشرّع وهذا ابتداع لا تملكه الإدارة، لما فيه من اعتداء على سلطة المشرّع وتجاوز من الإدارة لدورها الذي يقتصر على تنفيذ التشريع".
هذا باختصار شديد فيما يتعلق بتفسير أو تأويل الأنظمة واللوائح في الفقه الإداري، والحاصل في بعض الجهات الحكومية للأسف ليس مجرّد تفسيرات خاطئة وإنما في حقيقتها مخالفات مباشرة وصريحة للقوانين، والبعض يتذرع بالتفسير الخاطئ حتى يفلت من المساءلة والعقاب.
ومن الأمثلة التي يمكن طرحها في هذا المجال للتوضيح، قيام إحدى الجهات الحكومية بإضافة شرط للترقية مقتضاه تقدم المرشح بطلب أو تعهد يوافق فيه على العمل خارج المدينة التي يعمل بها قبل ترشيحه، وإلا تخطته الإدارة فيها، وبالتالي يكون هذا الشرط مخالفا للائحة الترقيات ومخالفا للنظام لأنه يخل بقاعدة الترقية ويقلب العلاقة بين الموظف والحكومة، وعليه تكون الجهة الحكومية قد ابتدعت قاعدة تنظيمية فرضتها دون سند نظامي، أو قد تمتنع الجهة عن تطبيق النظام وتمنع الموظف من الترقية بالرغم من توفر الشروط النظامية فيه.
وعلى هذا الأساس، قد تتذرع الجهة الحكومية في مخالفتها للأنظمة بأن ذلك من صلاحيات الرئيس الإداري، أو بأن الشرط السابق للترقية كان بهدف الصالح العام وضمان سير العمل في المرفق الحكومي، أو على أنه خطأ في تفسير النظام!
ونظرا لضعف الثقافة القانونية في بيئة العمل الحكومي، فإنه -للأسف- يتم تفسير النصوص النظامية الواضحة التي لا يجوز تفسيرها، ولا يجوز تأويلها إلى مدلول غير مدلولها الواضح، والحاصل هو مجرد تفسير لدلالات الألفاظ على المعاني التي قد تحتمل أكثر من وجه، ناهيك عن عدم فهم الهدف من الأنظمة في الأساس.
قد نتحدث عن الثغرات القانونية في الأنظمة واللوائح، وقد نتحدث عن التفسيرات والتأويلات الخاطئة لها، والتطبيق السيئ لها، ولكننا نختلف فيها دون مرجعية قانونية أو قضائية في ذلك.. فهل سألنا أنفسنا عن الغاية والهدف من وضع هذه المادة أو تلك؟ وعن المصادر التاريخية للتشريع لكشف المراد من النص؟ وهل يعلم المديرون والمسؤولون بأن قراراتهم خاضعة للرقابة القضائية؟ وأن قراراتهم خاضعة للطعن والإلغاء وللمساءلة والعقاب؟.. إن الإجابات على الأسئلة السابقة هي المدخل المبدئي لمرحلة تفسير القواعد القانونية الغامضة وغير الواضحة التي لم نصل إليها حتى الآن!