ظهر يوم الثلاثاء 29 /8 /1431هـ استبق رئيس مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية البيان الذي أصدرته المحكمة العليا في مساء اليوم نفسه، فبعث لوسائل الإعلام تصريحاً له دلالته القوية من حيث التوقيت والمعنى ونشرته الصحف في اليوم التالي (بداية شهر رمضان)، كما تم نشره في موقع المدينة الإلكتروني.

مدينة الملك عبدالعزيز مُكلّفة كما هو معروف من مقام مجلس الوزراء برصد الأهلّة وتقديم التقارير عن هذا الرصد للجهات الشرعية المنوط بها تحديد بداية شهر رمضان، وهي تأخذ بالحساب الفلكي، وتعتمد عليه في رصدها، ولأنّ الجهات الشرعيّة تعتمد على الرؤية الشرعية ولا تأخذ بالحسابات الفلكيّة فقد كان يحدث اختلاف بين التحديد الذي تأخذ به الجهات الشرعيّة لبداية رمضان اعتماداً على الرؤية الشرعية وبين تحديدات الحسابات الفلكية، وهذا أمر معروف ومعروفة أسبابه، وقد نوقش كثيراً في وسائل الإعلام في الأعوام الماضية في داخل المملكة وخارجها، وكان من المآخذ على المملكة.

الدكتور السويل في تصريحه يقول كلاماً لافتاً جديراً بالتأمل والتحليل إذ جاء هكذا ( أكد معالي رئيس مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية الدكتور محمد إبراهيم السويل وجود توافق كامل بين المدينة والجهات الشرعية في المملكة فيما يتعلق بالرؤية الشرعية للأهلة...إلخ)، فما هو المقصود يا ترى بـ(التوافق الكامل) الذي أكده الدكتور السويل؟ وهل هو اتفاق جديد بين المدينة والجهات الشرعية ينهي فترة الاختلافات السابقة بين مُسَلّمات الحساب الفلكي والرؤية الشرعية.. أم إن الأمر ليس كذلك؟

هناك في رأيي أربعة احتمالات لمفهوم "التوافق الكامل" الذي أكده الدكتور السويل في تصريحه:

الاحتمال الأول: أن تكون المدينة هي التي توافقت مع الجهات الشرعية، أي تنازلت عن مُسَلّمات الحسابات الفلكية التي تأخذ بها، وتحوّلت إلى مجرد راءٍ إضافي يُضاف إلى مجموعة الرائين المنتشرين في المملكة، ولكن بفارق واحد وهو أنها تستخدم المراصد الموجودة لديها.

الاحتمال الثاني: أن تكون الجهات الشرعية هي التي توافقت مع المدينة، فغيرت أسلوبها في الاعتماد على الشهود وأصبحت تعتمد على الحسابات الفلكية على اعتبار أنها تقدم العلم اليقيني الذي ستعتبره رؤية مجازية يمكن الأخذ بها.

الاحتمال الثالث: أن تكون الجهات الشرعية قد قرّرت الأخذ بالاثنتين معا، الحسابات الفلكية والرؤية الشرعية، وفق ذلك الأسلوب الذين سبق أن قدمه الشيخ عبدالله بن منيع مراراً وتكراراً، وهو الأخذ بالرؤية الشرعيّة إذا لم تتعارض مع مُسَلّمات الحسابات الفلكية وردّها في حالة التعارض، لأنها تكون حينئذ قد اقترنت بما يبطلها.

الاحتمال الرابع: أن يكون تصريح الدكتور السويل كلاما بلا معنى أي تصريحا سياسيا غرضه إعطاء الانطباع بوجود الانسجام بين المدينة والجهات الشرعية خلافاً للواقع.

هذه الاحتمالات الأربعة ستواجه المحكَّ الحقيقي بعد سبعة أيام من اليوم، أي في التاسع والعشرين من شهر رمضان، فالحسابات الفلكية تقول: إن الهلال سيغرب قبل الشمس في ذلك اليوم، ولهذا فإن وجدتم أن الجهات الشرعية لم تطلب ترائي هلال شوال في ذلك اليوم فاعلموا أنها هي التي توافقت مع المدينة وأصبحت تأخذ بالحسابات الفلكية، وإن وجدتم أن الجهات الشرعية قد طلبت تحري رؤية هلال شوال في ذلك اليوم فانظروا ما سيحصل في المساء، فإن أعلنت المحكمة أن اليوم التالي هو المكمل لشهر رمضان فاعلموا أن احتمال أن الجهات الشرعية قد أصبحت لا تأخذ بالرؤية إذا تعارضت مع الحسابات الفلكية صار قوياً، وإن وجدتم أن الجهات الشرعية قد أعلنت في مساء ذلك اليوم دخول شوال غداً بناء على شهادة الشهود فاعلموا أنها ما زالت لا تعطي الحسابات الفلكية أي اعتبار ولا تعترف بها، وتأخذ بالرؤية حتى لو كانت (مستحيلة) كما كان يحدث في الأعوام السابقة، وحينئذ اعلموا أن تصريحات الدكتور السويل كلام بلا معنى.

مصداقية الدكتور السويل ستكون على المحك خلال الأشهر والأعوام القليلة القادمة. فإذا ظلّ الانسجام قائماً بين الرؤية والحسابات الفلكية فهذا يعني حصول التوافق بين الرؤية والجهات الشرعية كما قال الدكتور السويل، وإن لم يحصل ذلك، فإن الدكتور بما قال يمارس دوراً سياسياً، ولا مانع أن يمارس المسؤول دوراً سياسياً، ولكن لا يجوز أن يكون ذلك على حساب دور الجهاز الذي يترأسه، أي ليس من المناسب أن يجامل الدكتور السويل الجهات الشرعية على حساب دور المدينة، ويزكّي رؤية لا تتفق مع مُسلّمات المدينة، وقد تكون مناقضة لها كما حصل سابقاً، وكما يمكن أنْ يحصل مُستقبلاً.

إنني أتمنى أن تثبت الأيام صحة ما أكده الدكتور السويل من وجود التوافق الكامل، ولكن أخشى أن بقية ما ورد في تصريحه تعطي الانطباع بعكس ذلك، وأنّ ما قاله كلام بلا معنى، فالدكتور السويل تحدث في نهاية تصريحه عن التعاون القائم بين المدينة والجهات الشرعية، ووجّه شكره للجهات الشرعية على تعاونها مع المدينة، ومن المعروف للقاصي والداني والمتابع ، وربما غير المتابع، أن المحكمة العليا هي الجهة الشرعية المختصة الموكل إليها تحديد بداية شهر رمضان، أي هي الجهة الشرعية التي يفترض أن يكون التعاون قائما بينها وبين المدينة، وهي الجهة الشرعية التي يفترض أن يوجه لها الدكتور السويل شكره، لكن الدكتور ـ ويا للعجب ـ تحدث عن تعاون المدينة مع مجلس القضاء الأعلى وليس المحكمة العليا، وشكر مجلس القضاء الأعلى على تعاونه ورئيس المحكمة العليا، ولو كانت المحكمة العليا ترتبط إدارياً بمجلس القضاء الأعلى بأي شكل لالتمسنا العذر للدكتور السويل، لكن المحكمة العليا مرتبطة بالمقام السامي مباشرة، ومجلس القضاء الأعلى ليس له أي دور بالنسبة للرؤية وتحديد بداية شهر رمضان. ومن الواضح أن الدكتور تحدث عما كان قائماً في السابق قبل إصلاح القضاء، فما معنى هذا؟ هل معناه أن المدينة حالياً ليس لها أي تعاون مع المحكمة، ولم تبلغها بأي تقارير عن رصدها للأهلة كما طلب مجلس الوزراء، وأن الدكتور السويل يتحدث عما هو منطبع في ذاكرته في الماضي، أي يطلق كلاماً بلا معنى.