هناك مشكلتان في الخطاب الحركي المعاصر تجاه الموقف من الولاية الشرعية في المملكة العربية السعودية، وهما قضيتان متلازمتان في أغلب الأحيان وتقوم إحداهما على الأخرى، الأولى: الجهل في قضايا "السياسة الشرعية" التي تفرق بين ما هو من اختصاصات الولاية وبين ما هو من اختصاصات الأفراد، فاختلط الأمر عند هذه الجماعات حتى أعطت للأفراد أحقية إعلان "الجهاد" و "إباحة القتال" للآخرين حتى خارج إطار الولاية الشرعية، باعتبار أن الخطاب الشرعي موجه إلى الجميع بلا تفريق، وهذه معضلة ناشئة من ضعف في دراسة قضايا السياسة الشرعية -التي أصلها فقهاء الإسلام- وبيان الفروق في مستويات الخطاب النبوي بين ما هو موجه إلى الأفراد، وبين ما هو من مسؤوليات القضاء، وبين ما هو من اختصاص المفتي، وبين ماهو من مسؤوليات الحاكم السياسي باعتباره مصدر الأمر والنهي فيما يتعلق بقضايا السلم والحرب والعهد والأمان وغيرها من المسائل العامة، وهذه الفروق بيّنها أهل العلم حين استقرؤوا تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم من خلال هذه الاعتبارات التي تغيب عن كثير من منظري الحركة الإسلامية، اتكاء على النصوص العامة الشرعية، دون فهم لسياقاتها ومقاصدها وتوجهها إلى المخاطبين باعتبار أوضاعهم العلمية والسياسية والاجتماعية، وهذا ناشئ من ضعف التأصيل والتفرد بالرأي المؤدي إلى الهوى والضلال.
الثانية: حضور فكر "التكفير" الذي يسقط قيمة الولاية السياسية من أي اعتبار، وذلك لأن سقوط الشرعية يعني سقوط أهلية إصدار القرار والالتزام به، وهنا يحل التنظيم أو القائد أو الشيخ محل الولاية الشرعية في استصدار الأحكام المتعلقة بقضايا القتال والسلم والحرب وانتفاء العهد وغيرها، وهؤلاء وإن كانوا يعيشون في ظل هذه الأوضاع السياسية المعاصرة ويحملون جنسياتها إلا أنهم يرون أن هذه حالة ضرورة يجب العمل على إنهائها، ومن هنا يظهر الخطاب العولمي الإسلامي الأممي، الذي يعيش حالة الدولة المتخيلة التي يسعى هؤلاء لإقامتها على أنقاض هذه الدول التي ينتمون إليها سياسياً بصورة شكلية باهتة، وكل ما جرى من فتن وتفجير وقتل للمعاهدين منذ عام 1416 في السعودية إلى الآن، هو من نتاج فكر التكفير وسقوط الشرعية وما تلاه من سقوط كل العهود والمواثيق التي تبرمها الدولة، وهنا تكمن خطورة مآلات فكر التكفير على الحركة والوعي ومن ضمنها فتاوى "الهجرة" إلى مواقع القتال التي يفتي بها بعض منظري هذه الجماعات.
القرار الملكي الأخير الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وفقه الله، المتعلق بتجريم الذهاب إلى مواقع القتال والانضمام إلى الجماعات الإرهابية هو علاج قانوني ونظامي لمحاصرة المستويين السابقين، مستوى الجهل والتجهيل في أحكام الفقه الإسلامي المتعلق بأحكام الإمامة، ومستوى "التكفير" الذي ينتج مثل هذه الظواهر الخطيرة على شبابنا، والذين ذهبوا ضحية أفكار منحرفة ومتطرفة جعلتهم وقوداً لمعارك خطيرة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، والبعد القانوني على أهميته في ضبط الظاهرة وتقليل آثارها، إلا أنها لابد أن تصاحب بنشر الوعي حول مسائل السياسة الشرعية -وخاصة للشباب المتحمس والمعتني بالعلم الشرعي- وتكثيف الدروس حول التفريق بين مهمات الحاكم ومهمات المحكوم وضوابط ذلك، وعن خطورة "التكفير" الذي يؤدي بالنهاية إلى استحلال الدماء، وإخفار ذمة المسلمين، وإشاعة الفتن في ربوعهم، وهذه مباحث دقيقة تحتاج إلى بسط وتقريب للشباب منذ نعومة أظفارهم، حتى نعطيهم الحصانة الكافية لحماية أنفسهم من حركات الاستقطاب التي تستهدف الجهلة منهم، والذين يسلمون بكل ما يسمعون، دون أن يكون لديهم الحد الأدنى من التساؤل الذي يقطع الطريق على المستقطبين، الذين يركزون في خطابهم على الدوغمائية والعاطفية واستثارة كوامن النفس، بعد أن يغطى العقل بغطاء سميك يمنعه من التفكر في أقوال هؤلاء ومناهجهم.
إن أول خطوة يخطوها هؤلاء هو إيجاد حالة "القطيعة" بين الشباب وبين العلماء بعد أن يشوهوهم بدعاوى كثيرة مثل "علماء السلطان"، وقواعد مشوشة كقاعدة "لا يفتي قاعد لمجاهد" وجعل معيار الصدق وصحة المنهج في مواجهة الحكام، والطعن في نوايا كل من يحاول مناقشة هؤلاء بأنه منافق، أو ضد الجهاد، أو أنه يبحث عن مصالحه الخاصة، وهذه من أكثر الوسائل تسريعاً لحمل الشاب لفكر الغلو، فحين يهدم العالم في عينه ثم يرشح له البديل فهو يسير بلا وعي ولا هدى، وهذه حالة قديمة في جماعات الغلو والتكفير، فالخوارج الأوائل تركوا خيار الصحابة وكبارهم كعلي بن أبي طالب وأصحابه -من تلامذة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم- وسلموا أمرهم لمثل عبدالله بن وهب الراسبي وأمثاله، فكان هذا سبب في ضلال كثير من الخوارج، وهاهم اليوم يطعنون بمثل الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- وأصحابه من العلماء ممن هم على طريقته ويتبعون أناساً لم يتخصصوا قط في العلم الشرعي، والتاريخ اليوم يعيد نفسه بكل تفاصيله من حيث السمات وطرائق التفكير ومآلات المناهج.