يمكن القول إن السياسة -باعتبارها مصلحة- ترتبط بكل مناحي حياة الإنسان، وتتجسد في إمكاناته المادية والمعنوية، ولهذا غالباً ما تصطبغ الأحداث الرياضية الكبرى بالسياسة-من خلال الإعلام- لإيصال الرسائل السياسية التي يراد إيصالها للعالم.

ولهذا تعتبر الرياضة استثمارا سياسيا مربحا، ففي عام 1936 استثمرت ألمانيا إقامة الألعاب الأولمبية الصيفية للترويج لألمانيا الرايخ الثالث وإظهار قوتها في العهد النازي، وقد افتتح الزعيم الألماني أدولف هتلر الدورة التي أنشئت لها ملاعب ضخمة ونقلت فعالياتها للمرة الأولى على التلفزيون الألماني، فكانت بالفعل منعطفاً في عالم الرياضة والسياسة معاً، حاول خلالها الرايخ الثالث طرح أفكار جديدة تبرز رسائل السلم والشباب والقوة في ألمانيا النازية حينها، حتى لو لم يكن الأمر كذلك، إلا أنها إعلاميا وسياسيا استطاعت أن تكوّن رأيا عاما حول تقدمها الحضاري والسياسي قبل الرياضي، حيث أفصح هتلر عن وجه ألمانيا العنصري والنازي حين خرج غاضبا من المنصة بعد هزيمة لاعب ألماني أمام أميركي من أصول أفريقية.

اليوم وبعد حوالي 80 عاماً على هذا الحدث تعود السياسة بقوة إلى الواجهة، بعودة روسيا إلى تنظيم الأحداث الرياضية العالمية، بعد انقطاع عنها، منذ آخر حدث أولمبي نظم في الاتحاد السوفييتي وهو دورة الألعاب الصيفية بموسكو عام 1980، حيث جاءت تلك الدورة في خضم الصراعات السياسية، فكانت الولايات المتحدة الأميركية من أوائل الدول التي قاطعت هذه الدورة احتجاجا على الغزو السوفييتي لأفغانستان. غير أن روسيا اليوم تنظم دورة الألعاب الأولمبية الشتوية (Suchi 2014) في مدينة سوتشي المطلة على البحر الأسود؛ وقد كانت روسيا تعد لهذا الحدث منذ 7 سنوات؛ حيث رصدت له أكثر من 14 مليار يورو من أجل الفوز بتنظيمه، وبلغت تكلفة هذه الدورة حوالي 50 مليار دولار، ولذلك تعتبر هي الأغلى بين نظيراتها في تاريخ الألعاب الأولمبية.

وهنا قد يتساءل البعض: هل يعقل أن ترصد مبالغ ضخمة-تعادل ميزانيات دول- لمجرد تنظيم حدث رياضي؟

وللجواب على هذا التساؤل، نعود إلى قبل ثمانية عقود لننظر إلى الأهداف المعلنة وغير المعلنة التي أرادت ألمانيا النازية تحقيقها، ونقارنها بالأهداف التي تريد روسيا اليوم تحقيقها من خلال هذه الدورة التي أظهرت قوة روسيا على عدة أصعدة، منها الصعيد السياسي بطبيعة الحال، الذي هو ملاحظ من خلال الأحداث والصراعات على الساحة السياسية الدولية، إلى جانب إظهار العمق التاريخي لروسيا القصيرية، وقوتها الثقافية والاقتصادية الممتدة منذ قرون.

أستطيع القول إن حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي تم افتتاحها في مدينة سوتشي الروسية هو المتن والأصل، بينما المنافسات الرياضية بين المتسابقين من مختلف الدول هي الهامش!!

والسبب يعود إلى الرسائل السياسية التي أرادت روسيا بعثها إلى العالم، فالحقيقة أن حفل الافتتاح كان مبهراً للعالم، حيث تحولت أرضية مقر الافتتاح إلى شاشة كبيرة لرسم مشاهد رائعة-عبر ثنائية الضوء والظل- تحكي تاريخ وجغرافية روسيا، بالإضافة إلى مشاهد أخرى مختلفة ومبهرة صممها المخرج التلفزيوني (قسطنطين آرنست)، تحكي تطور التاريخ الروسي، ولم يكن بطبيعة الحال إغفال الفنون والآداب الروسية، ما بين الشخصيات الشهيرة في قصص الأطفال إلى روايات تولستوي ودستيوفسكي وغيرهما، وشارك في حفل الافتتاح آلاف المتطوعين من الأطفال، وتضمن الافتتاح مراحل تطور الإنسان الروسي منذ الطفولة حتى الشيخوخة، مروراً بكافة المراحل السياسية والتاريخية لروسيا الاتحادية بين الأمس واليوم.

روسيا أرادت بث رسائل معينة للعالم، ومنافستها الولايات المتحدة أرادت بثّ رسائل مضادة، فرئيس الولايات المتحدة باراك أوباما لم يشارك في حفل الافتتاح الذي دعي إليه 40 من رؤساء وزعماء العالم، وأعلن-في مقابلة بثت في وقت افتتاح الدورة- أنه تعمد إرسال لاعبين مثليين جنسياً في هذه الدورة! مؤكداً أن "الولايات المتحدة ليست بحاجة إلى إنفاق 50 مليار دولار على ألعاب أولمبية" مما يعني أن ثنائية السياسة والرياضة خطان متوازيان قد لا يفترقان.