كنت أضرب كفا بكف وأنا أقرأ ما نشرته صحيفة "الواشنطن بوست" عن دراسة أجراها معهد "غالوب الدولي" حول نسب الإلحاد في العالم، والتي صدرت بعنوان: "مؤشر عام حول الدين والإلحاد".

الدراسة أجريت في عام 2012 وشملت 40 دولة، إلا أن المفاجأة بالنسبة لنا، نتائج تلك الدراسة بأن نسبة الملحدين في السعودية تضاهي نظيرتها في بلد أوروبي متقدم مثل بلجيكا.

المفاجأة الأكبر أيضا هي المرتبة التي حصلت عليها السعودية بنسبة 5%، وهي بذلك تعد أول بلد في العالم الإسلامي يتجاوز فيه الإلحاد حاجز الخمسة في المائة مقابل 75% من المتدينين و19% من السعوديين يرون أنفسهم غير متدينين. ونسبة الإلحاد السعودية هذه تفوق تركيا وتونس الدولتين العلمانيتين.

شكك في الدراسة بعض الباحثين والمتابعين لمثل هذه المراكز، ولا أدري هل القوم هناك أدخلوا في دراستهم -ضمن حسابهم للملاحدة- أولئك الشباب الذين تمور في صدورهم أسئلة شك عابرة، تدهم كثيرا منا في مراحل عمرية مبكرة، ولا أعرف أحدا من محبي ومدمني قراءة الكتب الفكرية؛ إلا ومرت عليه حينا من الدهر أسئلة الوجود الكبرى التي تدخل الإنسان في عالم تيه فكري، سرعان ما يخرج منه، وتزول الأعراض عنه بزوال المؤثر، أو العودة للإيمان بعد قلق قصير، وإبحار في إجابات ديننا لتلكم الأسئلة التي صاحبت الإنسان منذ بدايات الخلق، ولا زالت للآن.

بعيدا عن هذه الدراسة التي أستبعد نتائجها التي حادت عن واقعنا الحقيقي، إلا أن نشاطا لافتا ومتزايدا، وهمهمات تتصاعد عبر المجالس الخاصة، ومقولات إلحادية صريحة بأسماء مستعارة تتكاثر في مواقع التواصل الاجتماعي، ومعظمها لفتيات وشباب سعوديين، انزلقوا لهذه الوهدة المظلمة بسبب قراءاتهم الفلسفية، أو احتكاكهم مع ملاحدة يبثون فكرهم البائس، أو حتى حوارات بعض مبتعثينا مع معلميهم في الجامعات الغربية، وهم الذين لم يقرأوا بشكل معمق، ويستوعبوا الإجابات التي يقول بها ديننا حيال كل أسئلة وشبهات الملاحدة الجدد، فلا غرو في وقوعهم تاليا فريسة الشك والقلق الفكري، الذي يبدأ كضلعي زاوية حادة، تكون المسافة قصيرة بين رأسي الضلعين، ومع مرور الزمن وامتدادهما، يتباعد الرأسان عن بعضهما، ويلفي الشاب نفسه بعيدا عن دينه، وقد انتهى لإلحاد صريح.

حاورت بعض الدعاة المتصدين لهذه الظاهرة التي بدأت تتشكل في أفقنا، وقالوا إن أحد أكبر الأسباب هو عدم إنصات العلماء لهؤلاء الشباب وأسئلتهم القلقة، وعدم تفرغ الدعاة لهم أيضا. بل أحدهم يقول إن معلمة سعودية ملحدة في نهاية العشرينيات من عمرها، عندما حاورت أحد الدعاة، اتهمها بأنها مريضة نفسيا، وعليها معالجة نفسها، ما زادها إيغالا في البعد عن الإيمان، حتى استنقذها الله مما هي فيه، وهنا المشكلة في ضرورة إخضاع الدعاة والمتصدين لهذه الظاهرة إلى دورات شرعية متخصصة في الرد على الشبهات، وكذلك دورات في فنون الحوار مع الشباب.

برأيي أننا مقبلون على طفرة إلحادية، والقضية مؤلمة جدا علينا، وأذهب لأبعد من ذلك، في أننا سنشهد في المرحلة المقبلة؛ تجاسرا من دعاة الإلحاد الجدد هؤلاء - كبراؤهم على الخصوص- في المجاهرة بدعوتهم في بلد التوحيد، والدعوة العلنية له، مع هذا الانفتاح الكبير لوسائل "الميديا" والإعلام.

ستقوم منظمات حقوق الإنسان والمرأة، بإلقاء مواعظها علينا في حرية الاعتقاد وحق الإنسان في التعبير، وسيقومون بحماية هؤلاء المجدفين مستقبلا، دون أن نستطيع مسّ شعرة واحدة منهم، وقد اتكؤوا لركن متين، في غياب قوانين صريحة وواضحة، تضع هؤلاء تحت طائلة المسؤولية القانونية، ولربما يشهر لي أحد المحامين أو القضاة بنودا في هذه المسألة، لأرد عليه بأنه إن لم نفعّلها اليوم فستظل معطلة غدا، ولا قيمة لها.

أتصور أنه باستطاعتنا تحجيم هذه الظاهرة التي تتشكل اليوم، وذلك بالمبادرة إلى التحصين، وتفكيك الشُبه في مراحلها الأولى قبل أن تستوطن في قلب الشاب أو الفتاة، ولا يتأتى ذلك إلا عبر حملة وطنية كبرى، وفتح قنوات تواصل مباشر مع هؤلاء الشباب في الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي بكافة أنواعها، وحث أولياء الأمور على إيصال أبنائهم ممن التاثوا أو شكوا في وقوعهم بدائرة التيه العقدي هذه، كي يجدوا إجابات مريحة لأسئلتهم الحرجة التي تلوب في أنفسهم.

هناك علامات يستطيع الأبّ أو الأم معرفة إشكالية ابنها أو ابنتها في هذه المستنقع الفكري، والعلامات تظهر عليهم بانعزالهم ووقوعهم في اكتئاب، وإيثارهم الانعزال والصمت الدائم، واللوذ للإنترنت بالساعات الطويلة، وهنا يأتي دور الآباء والأمهات في استنطاق الابن، وإشعاره بعدم تحرجه من طرح هذه الأسئلة، وأخذه إلى مواقع متخصصة لحواره، والحذر الحذر من أخذه لأي داعية مهما بلغ شأنه، أو عالم غير متخصص، فلربما يزيد الأمر ضغثا على إبالة، لأن الحوار شاق، والأسئلة حرجة وصعبة لمن لم يتصد قبلا لها، فلا بد من متخصصين.

ما يحدث في الساحة اليوم من جهود في التصدي للملاحدة الجدد، إنما هي مبادرات فردية محدودة، القضية تحتاج لوقفة مجتمعية عامة، ولا تترك لفرادى الدعاة واجتهادات طلبة العلم العشوائية على فضلها ونفعها وخيريتها، ولكنها محدودة التأثير. لا بد من استراتيجية وطنية في هذا الملف تتبناها المؤسسات الشرعية في بلادنا وتقوم بدورها وواجبها في حماية دين الله، فكما قمنا بحملة ضد التطرف الديني، وكشف منابعه وجذوره، علينا اليوم كمجتمع التصدي لظاهرة التطرف المضاد المتمثل في هؤلاء الملاحدة الجدد، الذي يجدّون اليوم في نشر فكرهم، ويتلقون –بما يقول بعض الدعاة الملمين- دعما من الخارج، لنشر هذا الفكر بين شبابنا السعودي.

لعل وزارة الشؤون الإسلامية ووزيرها الخلوق معالي الشيخ صالح آل الشيخ، تتبنى هذه المسؤولية، عبر وضع استراتيجيات كبرى، لحملة مركزة ضد الإلحاد القادم، والاستعانة بخبراء متخصصين في رسم الخطط، إن كان بإنشاء مراكز متخصصة في محاورة الشباب، وإشهارها إعلاميا كي يسهل الوصول لها، أو بث برامج تلفازية في القنوات العامة، لا تقوم على المواعظ وسوق الآيات والأحاديث، بل على مناقشة عقلية صرفة، في وجود الخالق، ونبوة سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وكافة الشبهات التي تشل عقل الشاب والفتاة.

أميل إلى إنشاء قناة فضائية متخصصة، والتركيز على إنتاج برامج علمية تناقش بأسلوب عصري كل الشبه التي يلقيها شياطين الإلحاد على شبابنا، بل أذهب لأبعد من ذلك بالاستعانة بأتباع الديانات السماوية ممن تصدوا في الغرب لظاهرة الإلحاد وقاموا بإنتاج كتب ومؤلفات وبرامج غاية في الإبداع والإقناع، وإعادة صياغتها بروح عقيدتنا الإسلامية، فمثل هذه البرامج تكون أكثر إقناعا في تبديد الشبهات، خصوصا إذا أخرجت باحترافية مهنية.

معالجة الداء في بداياته أسهل بكثير قبل أن يتسرطن في الجسم، ونندم على عجزنا وقتها، ولات ساعة مندم.