لا جرم أن الدين الإسلامي الحنيف هو العقيدة الشاملة المعتمدة للناس، التي توضح الغاية من الحياة، والكون، وتفسر علاقة البشر بالله - تعالى - والكون، والحياة من جهة أخرى، بالإضافة إلى أنه اعتقاد يقيني مرتبط بما وراء المحسوس من الغيبيات، وما يرتبط بهذا الاعتقاد من الممارسات، والعبادات على تأصيل (إن الدين عند الله الإسلام)، حيث يتحتم علينا أن نؤمن بجوهر الدين كما هو، وخاصة في الأصول والثوابت، على قاعدة ( فاستقم كما أُمرت). وهكذا فالإسلام في جوهره بما هو الدين السماوي الكامل الذي ارتضاه الله للناس، يظل دينا ملائما لكل زمان ومكان، نظريا، وعقديا، على قاعدة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، ولا يحتاج إلى لي نصوصه بالتسييس، بقصد تحقيق أغراض حزبية، ومآرب سياسية ضيقة، لأن ذلك المسلك يعني ببساطة، اختزال الدين الإسلامي من حقيقته الشمولية إلى بزارات السياسة الضيقة، والهبوط به من آفاقه الإنسانية الرحبة، إلى نفق النفعية الحزبية المقيتة.

وفي ظل هذا الهدي الإسلامي النقي، تمكن الجيل النبوي من الصحابة والتابعين، ومن تلاهم، من استيعاب النهج الرباني على مراداته الحقيقية، فكان الإسلام بجوهره النقي الرشيد بيئة تسامح حقيقية للتعايش بين العالمين، بعيدا عن كل حيودات متأسلمة ناكبة عن جوهر الدين تحت أي ذريعة.

فنجحوا إذّاك في بناء حضارة إنسانية زاهرة، تخطت ذاتها في المكان والقيم والزمان، لتشع بالعطاء والنور على الإنسانية، حيث لا تزال بصماتها وامضة، حتى بعد أن أخذت بالتراجع عن الدور، بعد أن دبت فيها عوامل الضعف والانحلال، فلم يسمحوا لأنفسهم بممارسة لعبة تسييس الدين القيم، بقصد تمرير أغراض شخصية، أو مناكفات سياسية، تحت عباءة الدين، انطلاقا من قاعدة (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة)، فحافظوا بذلك المنهج القويم على نقاوة السلوك المسلم كما أراده الله من هذا الدين، حتى رضي الله عنهم، ورضوا عنه.

ولكن ظاهرة تسييس الدين لمآرب خاصة، بدأت في مراحل لاحقة تدب في قلب المجتمع المسلم رويدا رويدا، وتأخذ أشكالا متعددة، انتهت بتسقيط الآخر وتفسيقه، حيث بات الفكر المتأسلم المسيس، يحوم حول تخوم موجبات جوهر الإسلام مجانفا جوهر الدين، في عملية تدليس غير مألوفة، مستخدما (شتى ذرائع التأويل والتدليس على الناس، من خلال توجيه نصوص الشرع الحنيف والتطفيف فيها وفق مرادهم)، بقصد تحويل الدين الحنيف بتطويع نصوصه إلى مطية لتحقيق أهدافه، مع أن الدين أسمى من كل أطماع الدنيا وعرضها الزائل، وهو ما استنكره الإسلام منذ البداية، على قاعدة (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق)، لكي لا يتلطخ الدين بوحل الأغراض السياسية، ويتفرق المسلمون شيعا، وتذهب ريحهم.

ولأن الإسلام المسيس، وفي إطار نهجه الحركي، يحتاج في مسعاه التكتيكي دوما إلى إعادة إنتاج وعي الفرد المسلم وفقا لأجندته السياسية، كوسيلة في تعطيل مفعول العقل المؤمن المتطلع دوما نحو جوهر الدين عند جمهوره المسلم البسيط من خلال العمل على تجهيله لكي يصبح سهل الانقياد، ولا يفكر إلا في ما يمليه عليه مرجعه من تعليمات، بغض النظر فيما إذا كان على صواب أم لا، لذلك شاع في برنامج عمل الإسلام السياسي أسلوب تعمية العقل المسلم في المجتمعات الإسلامية، حتى ينقاد عند ذاك بلا وعي، وبسهولة تامة إلى حيث يؤمر، بعدما تم تغييب وعيه عن عمد، مع أن ما يضخ له من تثقيف لإعادة تشكيل وعيه الجديد، يصدر في الغالب الأعم عن إيديولوجيات سياسية، مغلفة بشعارات دينية مؤدلجة. وباختصار فالإسلام السياسي محكوم أولا، وقبل كل شيء، بضوابط أجندات سياسية، تقوم على لي عنق النصوص الدينية، لغرض تطويعها بما يتوافق مع فكره السياسي، وتصوراته الأيديولوجية، والتي لا تؤدي بالنتيجة إلا إلى الانزلاق نحو التطرف، والكراهية، والنفعية الذاتية، التي لا طائل منها سوى الفرقة، والضلال، وهي التداعيات التي أشار إليه القانون الإلهي في معرِض النهي عن الوقوع في مثل هذا الحال: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).

ومن هنا فإن الأمر يتطلب من جميع المسلمين التوجه نحو مسلك العمل بجوهر الدين، والتعبد به على نقائه الحقيقي، بعيدا عن أغراض أجندات التدين المسيس، التي تبحث لها عن موطئ قدم في الوطن العربي، والعالم الإسلامي، وما يعنيه ذلك بالمحصلة من تشظية للرأي العام المسلم، واستنزاف قوى وحدة الصف الخيرة في وجدان الناس، وحرمانهم من فرصة الانجذاب نحو مودة أخيهم الآخر على قاعدة (إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا.. ولكن بعثني معلما ميسرا)، حيث يفترض عندئذ بأبناء المجتمع المسلم الواحد أن يتقبل بعضهم بعضا، بغض النظر عن المذهب، أو النحلة، أو الطائفة، أو الحزب، تفاديا لسلبيات شق وحدة الصف المسلم، وتلافيا لتداعيات تبديد طاقات الأمة، وإلحاق الضرر بهيبتها، حيث إن الدين الحنيف ينبذ كل أسباب التشرذم والفرقة، التي لا تؤدي إلا إلى الضعف، والوهن، والضياع، وبالتالي منح أعداء الأمة فرصة الطعن في الإسلام، والنيل من المسلمين مجانا، خلافا لقاعدة لم الشمل: (واعتصموا بحبل اللَّه جميعا ولا تفرقوا)، والتي ينبغي أن تعتمد كاستراتيجية عمل ثابتة في منهج الإسلام الحق، في التعاطي مع قضايا وحدة كيان الأمة المصيرية.