وصلت زوجتي سميرة عبدالله القثردي مع أبنائها إلى مطار الدمام قادمة من مطار أبها، كنت بانتظارهم عند بوابة الخروج، وعدتها أن ترى في أرض وطني نماذج مشرقة لمستقبلنا السعودي القادم، لكني رجوتها أن تكون كالعسيريات قبل أربعين عاما، مثل أمها وأمي وجدتنا فاطمة، بدلاً من نقاب أهل البادية الذي يناسب الصحراء وشدتها، يكفيها الحجاب، وفعلاً في المساء وعند بوابة الواصلين رأيتها بوجهها الصبوح الذي ذكرني بعمتي عائشة رحمها الله، وبرفقتها ابنتي سارة تتبختر بلفلوف صوفي يغطي شعرها فقط، يتناسب وأربعة عشر ربيعاً من عمرها، ومعهما بقية أولادي.

أقيم في الخبر بلا سيارة، استأجرنا ليموزين متجهين للشقة الصغيرة التي سيقيمون فيها، يقولون في الطريق: "عسى الشرقية لسن باردة/ليست باردة مثل أبها، فأجيب: لس دولة شوية قفيف/ لا مشكلة بعض الرعدة والقشعريرة في الجسم، فيردون: لكنّا لم نرَ شيء مما تَقِل/ لكننا لم نر شيئا مما تقول...."، أمضي بهم استعداداً للتعرف على جزء جديد من بلادي لم يروه من قبل.

دار الحديث عما يريدونه وقلت لهم: عندكم أسواق الراشد مول ومجمع الظهران ولا بأس من سوق السويكت إن كانت الميزانية لا تحتمل مزيداً من النفقات، فأعرضوا جميعهم عني، فقلت: "إذن إحكوا لي ماذا تريدون، فقالوا: وعدتنا بشيء مختلف، فقلت: ما دمتم لا تريدون الأسواق، فسأريكم الشرقية كما يتجسد التاريخ والإنسان بأناقته ونبله منذ مئات السنين وقبل ظهور النفط".

هاتفت صديقي الشاعر المعروف زكي الصدير من أهالي القطيف، وتكرم علي بأن كان مرشدنا السياحي في سيارته التي لم تعتد على زحمة العائلة كما حصل معنا، المهم أخذنا إلى كورنيش الدمام الفاتن، وسأل أسرتي: هااااه أليست أجمل من كورنيش جدة وجيزان؟ سكتت زوجتي فمازالت ترتاب في هذا القطيفي وكذلك كانت ابنتي وأولادي.

ريبتهم وقلقهم لأنه من القطيف، رغم أني والدهم ورغم كل حكاياتي عن أصدقائي المثقفين الرائعين من والدنا منصور سلاط ونذير الماجد وعلي شعبان وصولاً لمحمد المعلم ولا أنسى من زرته على عجل في منزله العامر الدكتور توفيق السيف، وغيرهم وغيرهم من كرام وأفاضل، إلا أن أسرتي عند تحول الحكايا إلى حقيقة تعود للتعبئة الاجتماعية البائسة لبعض من يستميت في تمزيق اللحمة الوطنية تحت دعاوى دينية، متناسياً أن الكل بايع الإمام عبدالعزيز ولم يبايع أوهام الطائفيين، فكان الدين لله، وكان الوطن للجميع بقبلته الواحدة، نتجه لها جميعاً في صلواتنا الخمس، صوفية وسلفية، اثني عشرية وإسماعيلية، حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية، تجمعهم راية التوحيد التي رفعها جلالة الملك عبدالعزيز، وأبناؤه من بعده، كرمز سياسي تجتمع الطوائف والقبائل والمذاهب تحت ظلها ترجو العدل والكرامة والحرية والمساواة، ولهذا تم اختيار الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه كاسم حقيقي ومُعبِّر لمركز ومشروع الحوار الوطني.

أخذنا هذا الشاعر الساحر زكي إلى سيهات وسنابس مروراً بجزيرة تاروت إلى قلعة التاجر القديم محمد بن عبدالوهاب على شاطئ دارين التي قامت هيئة السياحة مشكورة بتسويرها، وينقصها الترميم فقط، ثم أخذنا لقلعة تاروت القديمة التي وجدنا هيئة السياحة أيضاً قد أحاطتها بشبك يحميها من العابثين، ولكن للأسف لم تتحها للزائرين، ولعل في المستقبل نجد شيئا من هذا.

لم تهدأ أسرتي من هذا التطواف التاريخي إلا عند زيارة معرض تشكيلي للفنانتين أم كلثوم وسلمى الحيان ففي المعرض رأوا لوحات رائعة لأم كلثوم التي كانت في استقبال ضيوف معرضها، وقد شغلتهم أعمالها الفنية عن تشريف أصدقائي حسين الجفال وفاضل العمران لنا في المعرض نفسه، ليلتقوا زوجتي وباقي أولادي، وقد اطمأنت زوجتي فعلاً إذ رأتني وحولي كل هؤلاء الرائعين، وقالت: عرفت الآن لماذا نسيت قبائل عسير، لقد سحرك أهل القطيف بحميميتهم ولطفهم، فقلت لها: قدري أن كان جل أصدقائي من المثقفين والشعراء، وكيف لا يسحرنا الشعراء، ولا تسحرني القطيف؟! أخيراً شكرت زوجتي صديقي على هذه الجولة السياحية وقد ذهبت عنها أوهامها الطائفية، تمنيت الزمن يسعف بقية أولادي حسن وأحمد وإبراهيم ويعرب فيكونوا كبارا بالشكل الكافي ليعوا معنى اللقاء بوالدنا العريق في نبله جعفر نصر الذي التقيته دون عائلتي، إنه والد الإعلامية الماجدة بثينة نصر.

طبعاً لم يسعفني الوقت لأزور بعائلتي الأحساء، وجبل قارة، ولا أن تطلع أسرتي على الصور الفوتوغرافية للفنانة ريم البيات زوجة الشاعر الشاهق أحمد الملا، أو يحضروا معرض الأستاذة مريم بوخمسين بقاعة التراث العربي بالخبر لكنه الوقت والتواءاته.

بقي سؤال: ما الذي يعني القارئ من حكايا لا ينقصها إلا سؤال المعلم أيام الطفولة: اكتب موضوع تعبير عن إجازتك الدراسية، وأظنني كتبت نيابة عن أسرتي هذا الموضوع وما يهم القارئ الفطن، أن كل الواقع التلفزيوني والصحفي الذي يدعو لوحدة الوطن وحقوق المرأة، لم يمس العمق الاجتماعي بالشكل الكافي وأن الإعلام يقوم بدور المكياج الاجتماعي لواقعنا إذ يبرز المرأة السعودية كمصممة أزياء أو مهندسة ديكور أو طبيبة وشاعرة وأكاديمية ومحامية الخ، وكأنما كرامة المرأة لا تحاز إلا بالحصول على المؤهلات والمواهب فقط، التي لا أرى نماذجها بسهولة في الشارع المجاور لمنزلي، كي نؤمن أنها ستدخل حيز واقعنا الإنساني، طبعاً كل هذا يرسب بامتياز في اختبار الواقع ليتحول ما نراه في الإعلام إلى مجرد مكياج يجملنا في حملة علاقاتنا العامة الخارجية، ولكننا في العمق الاجتماعي، نخجل منه ولا نرضاه، ونحاربه أحياناً، رغم تعلقنا بنماذجه في التلفاز، ولا نرى أنه يشبهنا بحق، فمن علَّمنا هذا النفاق، وأن نسرق البسمة من ثغور بعضنا، بالازدراء الكاذب، فنهرب من بعضنا، لنكون خارج وطننا برفقة عائلاتنا مبتسمين سعداء منظمين، وداخله سادة العبوس والتجهم والوسوسة، كأنما حياة الفن والجمال والتاريخ تحتاج لرفقة نضالية طليعية تصبر بانتظار ما سيأتي من طموحات يرجوها لنا ولاة الأمر، ويعرقلها الفهم السقيم عند بعضنا، لنرى حتى في بعض الأندية الأدبية ما يثير الغثيان إذ تقيم نظام الحرملك خلال محاضرة فكرية، والدوائر المغلقة التي تصنعها الجامعة لأساتذتها المسلمين مع طالباتها فإن تفوقت طالبة ابتعثتها الجامعة لمواصلة الماجستير والدكتوراة بضع سنين حيث لا مسلمين ولا دوائر مغلقة!؟!.

الوجه الحقيقي لكرامة المجتمع يكمن في المعايير التي تعيشها المرأة في هذا المجتمع، ولا كرامة لراشدة يتولى أمرها ذكر، وأقول"ذكر" لأننا نجد أماً ولي أمرها ابنها المراهق، ولا كرامة لمن تخاف الخروج من بيتها ولو لبعض غرضها الضروري في قوت بيتها، ونراها آمنة مطمئنة سعيدة في التجول والسير الطويل في الحدائق والأسواق إذا خرجت خارج الحدود، الوجه الحقيقي لدولتنا في الزمن القادم هو وضع المواطنة السعودية فيه، أكرر مواطنة، لا أقول امرأة بل مواطنة، ولسنا بحاجة لسنين كي نعترف بها صوتاً وصورة ككائن بهوية وطنية من لحم ودم، لا يكفي أن تكون في مجلس الشورى وبعضهن يعشن بثقافة "الحرملك"، لا تكفي حقوق تأخذها القادرات بآبائهن الواعين، وتعجز عنها البائسات بآباء يرون في كسر بعض العظم لبناتهن واجب تربية، يجب أن نؤمن بالحلقة الأضعف قبل الأقوى، وبهذا يقوى عقدنا الاجتماعي بقيادتنا الرشيدة، ولأني من صميم رجال ألمع القدامى ممن يرون أن الوجه الحقيقي للرجل يكمن في زوجته، فهي جناحه صقراً كان أو غرابا، ولأن أبها حاضرة عسير قد عرفت شعر جدتها فاطمة آل عايض فقد أدرك الألمعيون على ما أرجو معنى الثقافة والحضارة قولاً وفعلاً، أصالة ومعاصرة، فطموحنا كسعوديين أن نعيش في وطن تسوده شريعة قانونها (الناس عدول)، لا فقهاً ضيقاً يرى الناس حوله من ثقب (الذين في قلوبهم مرض).