في الماضي، وقبل ابتكار تقنية الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، كان هناك حوار واضح بين أفراد المجتمع بشكل أكبر عنه في هذه الأيام، وواقع المجتمع في ذلك الوقت وظروفه الاقتصادية والاجتماعية تحتم عليه الحوار واللحمة والتواصل؛ لأنهم بحاجة لذلك، هذا بالإضافة لتوافر الوقت لتبادل الزيارات والأخبار فأغلب أفراد المجتمع يعمل في الزراعة أو رعي الأغنام؛ فالمزارع يقوم بإلقاء البذور في مزرعته في بداية الموسم ودوره يقتصر بعد ذلك في متابعة مزرعته وسقايتها، وقد تتم الاستعانة ببعض الأفراد ليعملوا معه في هذا المجال، وراعي الماشية قد يترك الأغنام ترعى في المناطق التي حوله، أو يكلف من يساعده بالرعي، ونتيجة لذلك قد يتوافر لديهم وقت يخصص جزء منه للتسوق يوما واحدا في الأسبوع، أو في الأسبوعين، وباقي الأيام يتم التنقل بين الجيران، والأقارب، والأصدقاء.

وفي أثناء هذه الزيارات يتم تبادل أخبار الأمطار، وأسعار المواشي، والحبوب، والمراعي؛ لأنها كانت أكثر الأخبار التي تهمهم في ذلك الوقت، ويتم تناول القهوة في حالة توافرها، ويتم اجتماعهم في الغالب في الأماكن العامة، أو بالقرب من المزارع خارج البيوت، ويقضون جزءا من الوقت في الحوار ومناقشة بعض الأمور، وتبادل الأخبار، وعند قدوم الضيف إلى منطقة أخرى غير منطقته فلا بد أن يقدم ما لديه من جديد الأخبار في مختلف المجالات التي تهم الجميع ويتطلعون لها، والبعض يعرض ما لديه من بضاعة معروضة للبيع، وقد يجتمعون في بعض الأوقات لإنهاء مشكلة بين بعض أفراد المجتمع، واستكمال إجراءات الصلح بين المتخاصمين في حالة وجودها، وبذلك يكون فيه نقاش وحوار بينهم ويعرف جميع أفراد المجتمع في ذلك الوقت جميع الأخبار من خلال هذا الأسلوب؛ حيث إن كل شخص قادم من مكان بعيد لا بد أن يقدم ما يعرف بـ"علم الضيف" وينصت الجميع لأخباره، والجديد لديه، ويستفيدون منها، ويتداولونها بينهم، وعلم الضيف من متطلبات القادم من بعيد، وبذلك نجد أن هناك تبادلا للأحاديث، والحوارات بين أفراد المجتمع بمختلف شرائحه حتى على مستوى الأسرة الواحدة.

أما في وقتنا الحاضر فيعيش أفراد المجتمع شبه عزلة اجتماعية في ضوء توافر وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي الحديثة، وهذه الوسائل يتوقع منها أن تعزز التواصل بين أفراد المجتمع، والحوار، وحقيقة الأمر أن الإفراط في استخدامها أدى إلى التواصل الافتراضي فقط، وليس تواصلا، أو تفاعلا، أو تحاورا حقيقيا، وقد نتجت عن ذلك عزلة بين أفراد المجتمع، وغياب للحوار، والمناقشة حتى على مستوى الأسرة الواحدة في المنزل الواحد، وهذا ما أسميه بخرس المجتمع، أو صمت المجتمع، والأمثلة على خرس المجتمع كثيرة فعند متابعة ما يدور في مجالسنا هذه الأيام نجد أنها شبه صامتة، ولا أحد يتحدث، ويقود الحوار، والمناقشة؛ حتى لا يوجد حديث جانبي بين الموجودين في المجلس؛ لأن الموجودين في المجلس لن يستمعوا لأي شخص يريد أن يقود الحديث، أو الحوار حول موضوع ما نظرا لانشغالهم بأجهزة الهواتف من خلال المراسلات، والتصفح، والألعاب، وغير ذلك من البرامج المتوافرة في الهواتف النقالة، والأجهزة الإلكترونية، وينطبق ذلك على مستوى الأسرة فنجد أن الأسر في هذه الأيام تعيش فترة انعزال تام، وصمت مطبق في حين يوجد جميع أفرادها في المنزل، لكن الوجود جسميا فقط، والكل منشغل بجهازه مما يحول دون الحوار، أو المناقشة، وهذه ضريبة الإفراط في استخدام التقنية ونتاجاتها المختلفة. المثال الآخر الذي يجسد خرس المجتمع هو عند التجول على الشواطئ البحرية، أو في المتنزهات تكون التوقعات أن هناك حراكا اجتماعيا، وحركة للأطفال، وكافة أفراد الأسرة للاستمتاع بالبحر، أو المناظر الجميلة في الأماكن التي يذهبون إليها، وما يتم مشاهدته لا يتعدى أن جميع أفراد الأسرة جالسون مع بعض وفي هدوء تام، وكل فرد منشغل بجهازه، ولا يوجد بينهم أي حوار، أو تواصل، أو نقاش، ويسود الهدوء على جميع مرتادي هذه الأماكن نتيجة للاستخدام غير المقنن لهذه الأجهزة وتطبيقاتها من قبل جميع أفراد الأسرة صغارا وكبارا، وهنا أرى أن المجتمع مقبل على فترة من الصمت والجمود بين أفراده، ولن يكون هناك إلا التواصل الافتراضي الذي يعمل على زيادة الهوة، والفجوة بين أفراد المجتمع، ويبعده عن الحوار، والمناقشة، والتشاور المباشر، وقد يؤثر على المدى الطويل على مستوى التمكن اللغوي عند الجيل القادم، والقدرة على الكلام، وفي حالة عدم الاهتمام بهذه المشكلة الاجتماعية والتصدي لها بالطرق والأساليب المناسبة فقد يكون مجتمعنا في المستقبل مجتمعا صامتا، وقد ينتج عن ذلك تفكك أسري، وتفرد بالآراء، وعزلة حقيقية.