لم يمض كثير من الوقت على تلك المحارق القتالية، التي ذهب إليها أو بالأصح أُقحم فيها شبابنا؛ ليفقدوا في أتونها زهرة شبابهم محاربين بالنيابة عن قوى عالمية لم تكن قادرة على المواجهة الصريحة، وما زلت أتذكر فترة التسعينات الميلادية بتقلباتها ومتغيراتها، وتلك الأصوات التي كانت "تلعلع" ذات زمن على منابر المساجد منادية لما سُمي بالجهاد في أفغانستان، وهي المنابر التي يُفترض أنها منابر لتوعية الناس ونصحهم وإرشادهم لما فيه خير وصلاح دينهم ودنياهم.

أتذكر اختطاف مجتمعات بأكملها من على منابر دور العبادة، لتتحول إلى منابر ودور لتجييش شباب كان من المفترض أنهم عماد الأوطان ومستقبلها، ليخسر الكثير من الأوطان العربية ومن بينها المملكة العربية السعودية، قوة عظيمة كان مُنتظرا أن تكون مساهمة في بناء مجتمعاتها بفاعلية.

أتذكر كيف تحولت بعض المواقع في بعض المدن إلى معسكرات للتدريب على السمع والطاعة العمياء، وبطريقة ممنهجة أقل ما يقال عنها إنها لم تكن نزيهة، إذ لم تكن قضية المسلمين الأساسية هي قتال الدب الروسي في أفغانستان، بل إن قضيتنا الأساسية كانت ولا تزال القضية الفلسطينية، التي تم تغييبها بطريقة ما!

والدفع عوضا عن ذلك بفكرة الجهاد الأفغاني إلى الواجهة، وتوسيع مبدئه في عمق المجتمعات العربية، وهي الخدعة الكبرى التي خططت لها وقادتها تكتيكيا عن بعد قوى عظمى لها مصالحها وحساباتها في تلك المنطقة وتلك الفترة الزمنية، وتم الترويج لها باسم الجهاد في سبيل الله، في الوقت الذي لم يكن هناك ما يدعو للتجييش والحشد، وهو ما وقع في شركه كثير من الأسماء الدعوية المحلية والعربية، لينتج عن ذلك فيما بعد مغالاة دينية لم تعهدها العقلية الإسلامية على امتداد عصورها التاريخية.

اليوم تعود تلك النداءات والدعوات إلى الواجهة، ولكن بحسابات مختلفة كثيرا، لها ما لها وعليها ما عليها، مستخدمة نفس الأسلوب الدعوي وبشكل أشد ضراوة، وليعود بذلك البحث من جديد عن المجاهد الكلاسيكي المختطف فكريا، وهذه المرة في ميدان جديد جاذب لتسويق فكرة الجهاد بإغراءات دينية أقوى، من خلال موقعه "الجيوسياسي" الاستراتيجي الخطير، ويُستدرج العرب والمسلمون مرة أخرى إلى ميادين الاقتتال والحروب والفرقة والتمزق، ليغيبوا مجددا عن مواكبة العالم فكريا وعلميا واقتصاديا، في إعادة كربونية للمشاهد التاريخية السابقة، في أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك والعراق!.

وعلى أولئك المتنطعين بالدعوات إلى الجهاد كلما قاموا وقعدوا، أن يكفوا شرور أصواتهم عن المجمعات العربية، ويلتفتوا أكثر إلى بناء خطاب ديني دعوي متصالح مع آمال الأمة وطموحاتها المتطلعة إلى التقدم والإبداع، وتقدم مدلولات تعكس معه تطور خطابها فكريا، ليتماهى مع متطلبات العصر ومتغيراته وأفكاره، وإخراجه من عباءة الاستعطاف والاستدراج وفكر الانتصار للدين، فالدين الإسلامي تاريخيا لم يسقط أو يضعف على الرغم من ظروف الاجتياحات العسكرية التي عصفت بالدولة الإسلامية، بل ذابت في روحه كل الأشكال السياسية والتيارات الفكرية على الدوام، وهذه ذريعة هشة وضعيفة لا تُعبر عن وعي خطابي مُنطلق واقع قوة الدين ومكانته الحقيقية، وعليهم أن يكفوا عن تقديم الإسلام في خطاب أحادي عاجز، لا يرى إلا الجهاد والقتال مخرجا لا بديل عنه لحال الأمة كما يعتقدون، وهم بذلك كأنما يقولون بعجز اللغة العربية والفكر الديني الإسلامي، عن إيجاد خطابات دعوية بديلة قادرة على استيعاب المشهد، وهذا ليس صحيحا على الإطلاق، بقدر ما هو مثال على ضعف فكر وثقافة أولئك الدعاة أنفسهم، وليست هناك مسوغات تبرر استمرار مثل هذا الخطاب التعبوي المتشنج، الذي أثبت فشله حتى الآن إزاء المستجدات السياسية والفكرية والاقتصادية، ومن الغريب ألا يستفيد السواد الأعظم منهم على مدى العقود الماضية، من مضامين الخطابات الفكرية الموازية في أنحاء مختلفة من العالم، التي صنعت الفارق بامتياز في المجتمعات التي تبنتها، وانعكست ثقافيا على أممها محولة إياها إلى أمم فاعلة ومنتجة على كل المستويات.

تُرى متى سيدرك هؤلاء الدعاة أن الجهاد ليس فقط في حمل السلاح والاقتتال؟! ومتى سيبدأ أولئك الدعاة بانتهاج خطابات فكرية تؤسس لأمة عربية إسلامية مجيدة، تعيد بعض البريق الذي كانت عليه ذات ثقافة؟.