فرحتها بالحب تملأ عينيها، وإقبالها على الحياة يلمع في حركاتها.

قدمت مع أهلها في أحد مواسم الحصاد، وأقاموا بيتهم أمام بيتنا مباشرة حيث البيوت مفتوحة على فضاء الله.

أنا وابن عمّي صغيرين ننام تحت السماء في منتصف المسافة بين البيتين، وكانت حين تزور أمّي ليلا لا بد أن تمرّ بنا وتحرّك بيدها سرير أحدنا مازحة "الحق حبيبك سرا الليل"

مرة كانت في جمع من النساء عند أمّي وصوت عبدالله محمد "يا ساري الليل هارب من جراحك" يتسلل منخفضا من الراديو، لم تقاوم رغبتها في السماع، وتوسلت "عمة زهراء، ارفعي لي الصوت شويّة" وأمّي رفضت. فانطلقت تجري لبيتهم وتجذب الراديو، كأنه الآن، بوجهها المضيء واقفة أمام الفانوس تبحث عن الأغنية ووجدتها لكن على آخر آه.

فاح ورد قلبيهما في القرية فتحرّج أهلها، وتقدم لخطبتها مرارا ورفضوه، ثم قرروا العودة إلى اليمن. بعد سفر نهار كامل وتجاوز الحدود حل الظلام، فأشعلت قلبها عائدة كالريح وحيدة على قدميها وأصبحت في بيت شيخنا، رأيتها وعيونها على الأفق لا تلتفت لأحد ولا تتكلم مع أحد، سوى دمع صامت يتتابع، سألوها فلم ترد إلا "إما هو وإما الموت".

لملموا أنفسهم وسافروا بها شمالا تجاه وادي "بيش" وهناك زوجوها. قلبها الواضح رفض الحياة وهي في العشرين مخلفة طفلا واحدا، قبروها وعادوا إلى اليمن. ابنها اليوم شاب طالما حدثتني نفسي أن أخبره أني شهدت قلب أمه، وأنها كانت قطعة من طهر وحب ونور، لكن هل سأحدثه عن امرأة لا يعرفها؟

أما صاحبها جارنا فهو غريب أيضا في القرية، كتوم طاهر النفس. تزوج زوجة صالحة وأنجبت له ابنين، أضايقه أحيانا حين أناديه "يا ساري الليل". ولأن بيننا صداقة وجيرة وزمالة كنت كلما تجرأت على الاقتراب من أعماقه ينتبه لي ويشعّ من عيونه إجلال عميق وهو يشيح عني، لم أسمعه مرة يتكلم عنها أو يمرّ اسمها على لسانه.

قبل ليال أثناء خروجه من المسجد سألته وأنا أمرّ به "عادك تبحث عن صباحك؟". ناداني لكني لوّحت له بأني مستعجل وسأعود. بعد ساعات كنت أمشي في جنازته؛ حيث نهاية القصة فتقطرت من عيني ليال:

"يا ساري الليل هارب من جراحك

تسري الليل تبحث عن صباحك".

بين قبريهما الآن تقريبا نفس المسافة التي ركضتها من أجله ستّ الكل على قدميها قبل 40 سنة.

سلام على الحب وأهله. سلام ثم سلام.