ما زالت بؤر وباء كورونا النشطة تطل برأسها في مناطق المملكة المختلفة، آخر هذه البؤر هي البؤرة النشطة حاليا في مدينة الرياض، التي يبدو أنها على موعد جديد مع أضواء تفشي كورونا بعد محاولات سابقة لإبعادها عن المسرح بالنفي تلو الآخر وتوجيه الأضواء على الأحساء والمنطقة الشرقية.
مشوار إدارة تفشي كورونا الذي سيكمل العام والنصف حمل العديد من الخروقات للأعراف الصحية والأخلاقية التي دفعت المملكة ثمنها 59 مواطنا ومقيما يرحمهم الله. هذه الخسائر البشرية هي ما صرحت به وزارة الصحة ولعل العدد أكبر والوضع أسوأ، بدلالة الدراسة المنشورة هذا الأسبوع من قبل أطباء مدينة الملك عبدالعزيز الطبية بوزارة الحرس الوطني في مدينة الرياض.
نشرت مجلة Annals of Internal Medicine - وهي مجلة علمية محكمة عالمية باللغة الإنجليزية - في عددها الصادر بتاريخ 28 يناير 2014 بحثا يصف بؤرة من 12 حالة لمرضى مصابين بفيروس كورونا في ثلاث عنايات مركزة، ما بين مستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء ومدينة الملك عبدالعزيز الطبية بالرياض، وكلاهما تابعان للشؤون الصحية بوزارة الحرس الوطني.
تسع من هذه الحالات الحرجة كانت منومة بعنايتي القلب والباطنية المركزة في مدينة الملك عبدالعزيز الطبية بالرياض من منتصف يونيو إلى منتصف يوليو 2013 (شعبان ورمضان 1434).
سبع من حالات الرياض التسع كانت ناتجة عن بؤرة العناية المركزة للقلب، وجميع هذه الحالات مكتسبة داخل المستشفى ولم تأت من بؤرة مجتمعية، وقد نوه الباحثون على ذلك، حيث أظهر التاريخ المرضي لأربع من الحالات السبع - والتي كانت لممارسين صحيين - عدم التزام هؤلاء بالاحتياطات اللازمة للتعامل مع الحالات المشتبه بها.
أي أن بؤرة العناية المركزة للقلب كان بالإمكان تجنبها لو أن الطواقم الصحية اتبعت توجيهات واحتياطات مكافحة عدوى فيروس كورونا، ولكن كيف لهم الالتزام باحتياطات لخطر لم يستشعروه؟! كيف لهم الالتزام باحتياطات لتفشٍّ تم وصمه مرارا وتكرارا من قبل وزارة الصحة بفيروس مسبب لحالات فردية؟؟
ومع ذلك فإن هذه الدراسة المهمة تحمل مؤشرات خطرة جدا إضافة إلى واقع مفاده أن بؤر هذه المستشفيات لا تحصل بشكل رئيسي، إلا نتاج ضعف إجراءاتها واحتياطاتها لمكافحة العدوى.
قام الباحثون جهلا أو علما بكشف واقع سوء إدارة التفشي وطنيا، باستخدامهم لمنهجية وزارة الصحة في تعاملها مع تفشي كورونا وبؤره المجتمعية والصحية المتعددة، فبينما تم الإعلان والتصريح عن حالات الأحساء من قبل الشؤون الصحية في القطاع الصحي الشرقي لوزارة الحرس الوطني في حينها، فإنه لم يتم الإعلان عن بؤرة الرياض، وإنما تم التحفظ عليها لحين نشرها في مجلة علمية محكمة فيما يبدو، كتنافس بحثي بين وكالة الصحة العامة بوزارة الصحة والشؤون الصحية بوزارة الحرس الوطني على حساب صحة المرضى والصحة العامة للمخالطين من ذويهم والممارسين الصحيين.
علقت وزارة الصحة الجرس لخروقات الأعراف الصحية في إدارة التفشي لتتبعها الشؤون الصحية بوزارة الحرس الوطني مستخدمة المعلومات الحكومية، التي تعد من معلومات الملكية العامة التي لا تفرض عليها حقوق تأليف ونشر، ومن ثم نقلها لحقوق تأليف ونشر "خاصة" عبر نشرها في مجلة علمية محكمة من دون الإشارة لمعلومات الملكية العامة وفصلها عن حقوق التأليف والنشر الخاصة بمؤلفي البحث المتمثلة بآرائهم عن حقائق معلومات الملكية العامة.
هذا الاستهتار بخطورة بؤر تفشي فيروس كورونا واختزاله في سباق نشر علمي لا أخلاقي بحاجة لوقفة وإيقاف، حتى وإن اضطر الوضع لإنشاء هيئة عليا مستقلة لمشروع حل معضلة تفشي كورونا في أنحاء المملكة، فمن غير المقبول علميا وأخلاقيا أن يتم التحفظ على الحالات والوفيات من قبل وزارة الصحة وبقية أعضاء مجلس الخدمات الصحية، والتسابق على نشر أبحاث لا قيمة ولا وزن لها في إدارة التفشي، في دلالة على عجز واضح عن إجراء دراسة حالة مقارنة واحدة على مدى عام ونصف لمعرفة "أساسيات" هذا التفشي.
ثم كيف قام مجلس المراجعة المؤسسية للأبحاث في الشؤون الصحية للحرس الوطني بالموافقة على هذا البحث، وهو لم يستوف الحد الأدنى من الشروط ليعفيه من أخذ موافقة المرضى، وهو الإعلان عن الحالات والتصريح ببيان كجزء من التقصي الوبائي؟؟ هنالك فرق بين نشر أنشطة الصحة العامة كالتقصي الوبائي وبين النشر العلمي لنتائجه، فالأولى لا تحتاج لموافقة لحساسية عامل الزمن في إدارة التفشي والحاجة لتوزيع المعلومات للمجتمع العلمي بشكل متسارع، أما الثانية فهي مجرد توثيق لمعلومات وصفية وإجراءات لا تأثير لها على مسار التفشي بعد فترة طويلة من حدوثه.
ذكر البحث أن عينات المرضى والموتى - يرحمهم الله -، تم فحصها في المختبر المرجعي لوزارة الصحة، وأيضا في مختبرات مدينة الملك عبدالعزيز الطبية بالرياض، مما يعني أن وزارة الصحة على علم بهذه البؤرة فكيف لم يتم الإعلان عنها؟ وما الذي دفع بالباحثين إلى فحص المرضى في مختبرات المدينة الطبية بعد أن تم إرسالها للوزارة، هل احتفظت الوزارة بعيناتهم ولم تشاركهم نتائجها، أم أن الباحثين قاموا بالتحقق من صحة نتائج المختبر المرجعي بفحص العينات أيضا بمختبر المدينة؟ هل كان عدم الإعلان عن هذه البؤرة الصحية والاحتفاظ بها لحين النشر خوفا من أن تنشرها وكالة الصحة العامة باسم الوزارة متجاهلة المدينة الطبية؟
لكل شيء إذا ما تم نقصان، وها هي الدراسة المنشورة بمجلة علمية محكمة تظهر النقص والتخبط في إدارة التفشي أمام العالم، حتى مع إصرار وزارة الصحة أن "كله تمام".