يحكى عن مارتن بوبر أنه كان قلقا من الحوارات العمومية، أعني الحوارات التي تقام في فضاء مفتوح يشارك المتحاورين فيه طرف ثالث متابع هو الجمهور.

كان بوبر يعتقد أنه بمجرد تواجد مكبرات الصوت أو كاميرا التلفزيون فإن المشهد برمته يرتبك. المشهد الحاضر في ذهن بوبر هو مشهد جماعة من المتحاورين في فضاء خاص تتوافر فيه شروط عالية من التواصل الحر والأمين. فضاء لا يقلق أعضاؤه من الصورة التي قد تنعكس عنهم في الخارج. داخل الحوار يشعر كل متحاور أن صورته في يد أمينة، بمعنى أن شريكه في الحوار قادر على فهمه في حالات ضعفه وانكساره وجهله وخجله، وأنه لن يستثمر كل هذه المشاهد ضده، أو يفصلها عن باقي مشاهده الجميلة.

هذا الفضاء الخاص الحميمي يرتبك بالكامل حين يتم الانكشاف على الخارج، هذا يعني دخول أطراف جديدة غير معروفه لأطراف الحوار، وكذلك غير ملتزمة بالدخول بالحوار، بمعنى أنها أطراف متابعة مشاهدة بدون أي التزامات. هذا العنصر الإضافي يجعلنا أمام مشهد جديد بالكامل، يصف بوبر هذا العامل الإضافي بـ"الهوّة التي تفصلنا عن الحوار الحقيقي".

عامل إضافي جوهري أشار له بوبر في معرض اعتراضه على الحوار العمومي هو أنه يفتقد للعفوية وهو ما "يحتاجه أكثر من أي شيء آخر". العفوية هنا ربما تعني الحديث دون قلق الحسابات المعقدة، أو الحديث الآمن. الحوار العمومي بالضرورة حديث في السياسة وسيتم فهمه وتأويله والجدل معه داخل الفضاء السياسي العام، هذا الفضاء مشكل من عدّة وجوه، أولاً أنه مشحون ومليء بالانحيازات المسبقة، نعلم أن هذه الوضعية تجعل من الحوار مهمة أكثر مشقة وصعوبة، الحوار في الأخير هو حالة انفتاح وترحاب وضيافة وهذا ما يصعب تحقيقه في الشأن العمومي، الذي هو سياسي بالضرورة.

إشكالية أخرى للحديث العمومي كفعل سياسي في الفضاء العام هي خوف المتحاورين على أنفسهم من نتائج قد تترتب على صراحتهم وتعبيرهم بصدق عما يعتقدون، هناك الحوار العمومي أخطر وأقلّ أمانا خصوصا في السياقات المتوترة وغير المستقرة على حماية واحترام حرية التعبير وحق أشكلة القضايا والأحداث. الحوار العمومي هنا هو عالم مفتوح من الاحتمالات الخطيرة التي يمكن أن تقضي على عفوية المتحاورين وانطلاق تفكيرهم بحرية، الحوار العمومي هنا هو انفتاح على عالم ليس بالضرورة عالم صديق، الحوار في عمقه لجوء وبحث عن الصدق والأمان ودفء التواصل البشري.

بوبر اليهودي الذي عاش الحربين العالميتين في ألمانيا، يعلم أكثر من غيره أن الفضاء العام خطير والحديث فيه محفوف بشتى أنواع سوء الفهم، قد لا نستغرب أن الحوارات المسجلة لبوبر على قلتها حدثت في أميركا؛ المكان الذي شعر هو فيه بقدر أكبر من الحرية والأمان. هل هذا يعني أن الحوار العمومي محكوم عليه بالفشل والاستحالة كحوار حقيقي لصورة من أعلى صور التواصل البشري؟ فلنجرب إذن الوجه الآخر للحوار العمومي.

الحوار العمومي، خصوصا المسجل والمنقول تقنيا، في المقابل هو انكشاف على عدد لا محدود من الناس، هو إمكان ممتد وغير محدود لتواصل جديد مع إنسان جديد رغم قسوة الجغرافيا والحدود وشروط الزمان.

الحوار العمومي هو يد ممدودة هكذا في الفضاء للإنسان رغم الزمان والمكان. حتى اليوم لا يزال البشر يتواصلون مع حوارات سقراط واليونان رغم أنها قد سبقتهم بآلاف السنين، لو لم تدوّن تلك الحوارات وتحفظ وتنقل لانقطع كم هائل من التواصل البشري العابر للتاريخ والقارات.

تحويل حوارات سقراط وغيرها من الحوارات إلى مدونات عمومية جعلت من عدد المشاركين في تلك الحوارات يفوق كثيرا وبشكل مذهل أفرادها الأصليين. التدوين العمومي بشكل آخر جعل تلك الحوارات سرمدية مفتوحة للمستقبل باستمرار. في حواره الأخير مع تلاميذه ومحبيه قبل تنفيذ قرار الإعدام يناقش سقراط قضايا خلود الروح والحياة بعد الموت والمعرفة وغيرها من القضايا، لا يزال هذا الحوار مفتوحا لآلاف القرّاء الذين يدخلون في قضاياه وإشكالاته ويمدّون آفاقه إلى مساحات أوسع وأوسع، يمكننا القول هنا أن تدوين أفلاطون لحوارات أستاذه سقراط جعل من تلك الحوارات تمتد، حتى الآن، لأكثر من 2400 سنة وتشمل عددا لا يمكن إحصاؤه من القراء والمحاورين. هذه فضيلة هائلة للحوار العمومي لا يمكن تجاهلها. باختصار الحوار العمومي هو رحم غير محدود القدرة لإنجاب الحوار.

أيضا الحوار العمومي هو موقف من أجل الحوار، بمعنى أنه موقف معلن وصريح من اللا حوار، أعني هنا أن نقل الحوار للفضاء العمومي هو موقف معلن تجاه ثقافة قطع التواصل الإنساني التي تبثها الحواجز الثقافية والسياسية والدينية والعرقية. العالم كما كان وكما نعرفه اليوم، مليء بدعوات قطع التواصل ورسم علاقات العداوة والخصومة، بدلا من علاقات التواصل والتعاون. هذه الحواجز تحضر في التعليم والإعلام بمعنى أنها خطابات عمومية.

دعوات قطع التواصل لا تهدف فقط إلى قطع التواصل العمومي بل تدرك أنها لن تنجح حتى تقطع إمكانات التواصل الفردي الحر، من هنا يمكن فهم الحوار العمومي على أنه أيضا حالة من حماية الحوار الفردي الخاص. إنه دفع لسقف التواصل عاليا بعيدا عن رؤوس أولئك الحالمين بفرصة للتواصل مع الآخر والانكشاف عليه.

الحوار العمومي في هذه الحالة ليس مشغولا بهدف خارجي مفارق للتواصل مع الذات والآخر، بل هو مشغول بتحقيق شرط هذا التواصل قبل كل شيء. التواصل العمومي هنا هو إعلان عن حالة أبدية من التواصل لا يمكن قتلها أو دفنها.

معضلة الحوار العمومي هنا هي أنه يؤدي، كما في الجزء الأول من هذا المقال، إلى إضعاف احتمال حدوث الحوار ويحيطه بعوامل تدفع في اتجاه إحباطه. في المقابل، فإنه ضرورة لحماية الحوارات الفردية ورحم لتوليد الحوارات. سأتوقف مع هذه المعضلة ولي عودة لها لاحقا.