في كتابه "نظرات في تربية المعذبين في الأرض"- الصادر عن دار التنوير بترجمة مازن الحسيني- يقدّم فيلسوف التربية البرازيلي الشهير (باولو فريري) حصيلة ملاحظاته في فلسفة التربية، إبّان وجوده في المنفى بعد اتهامه من قبل النظام العسكري في البرازيل بممارسة النشاط الهدام الذي يشكّل خطراً على البلاد، ولم يكن هذا النشاط سوى جهوده بتطبيق نظرياته في (محو الأمية) في القرى النائية بشمال البرازيل؛ حيث الطبقات الكادحة ممن يمتهنون الزراعة وحصيلتهم التعليمية صفر.
لقد رأى باولو فريري أن العلم هو مفتاح الفرج بالنسبة للأميين والكادحين والمضطهدين؛ ولهذا اعتَبر أن قضية "الأنسنة" هي القضية المركزية بالنسبة للإنسان التي تكتسب طابع القطعية، حيث إنها تعتبر احتمالا ممكنا وقابلا للحياة، وفي المقابل يشكّل تجريد الإنسان من إنسانيته خطرا محتملا أيضا، ولذلك يؤكد أن الخيار أمام الإنسان هو بتحقيق "الأنسنة" بشكل عام، عبر النضال من أجل تحرير الأجيال، على اعتبار أن استلاب الإنسانية-رغم كونه حقيقة تاريخية ملموسة- ليس مصيرا محتوما، لكنه نتيجة لنظم تربوية تولّد العنف لدى المضطهدين وتجردهم من إنسانيتهم.
ولذلك يعتبر وضع الناس الأقل إنسانية سيدفعهم إلى التخلص من ذلك، ولكي يكون العمل ذا معنى حقيقي، فإنه يجب على المضطهدين ألا يقوموا لاحقا باضطهاد مضطهديهم بل عليهم أن يعملوا على استرداد إنسانية الطرفين. فالمضطهدون في المناطق الزراعية لا يريدون إصلاحا زراعيا بقدر ما يريدون تملك الأراضي، أو بالأحرى أن يكونوا "أسيادا" على عمال آخرين، كما من النادر أن نجد عاملا ترقى إلى مراقب عمال ألا يصبح أكثر جورا وتسلطا- من المالك نفسه - على بقية زملائه العمال؛ ذلك أن "الاضطهاد يظل دون تغيير".
وهنا يؤكد فريري ضرورة دراسة حالة "الخوف من الحرية" التي تصيب المضطهَد فتقوده إلى الرغبة في لعب دور مضطهده، مؤكداً أن "الإيعاز" هو أحد العناصر الرئيسة بين الطرفين، ويمثّل كل إيعاز في قيام شخص بفرض "اختياره" على شخص آخر، وتحويل وعي هذا الشخص إلى وعي شبيه بوعي الشخص القائم بالإيعاز. ويشدد فريري على أنه لكي يتخلص الناس من حالة الاضطهاد هذه، عليهم أن يتعرفوا بشكل نقدي على أسبابها حتى يتمكنوا من تحقيق الهدف من التغيير، وهو خلق وضع جديد يجعل من الممكن تحقيق "الأنسنة".
ثم يقدم مفهومه الشهير (التعليم البنكي) على أنه إيداع المعلم-الطرف الفاعل- ما لديه في ذهن الطالب فيتلقى المعلومات ويحتفظ بها لحين الحاجة إليها وقت الاختبار؛ وعلى هذا الأساس فإن من يتم استعبادهم من البشر هم الذين يفتقرون إلى الإبداع وغياب التحول والمعرفة، وفي المفهوم "البنكي" للتعليم تعتبر المعرفة هنا "هبة يمنحها أولئك الذين يعتبرون أنفسهم ضليعين في المعرفة إلى من يعتبرونهم لا يعرفون شيئاً... فالتعليم يجب أن يبدأ بحل التناقض بين المعلم والطالب، بالتصالح بين قطبي التناقض، بحيث يصبح في الوقت ذاته طالبا ومعلما".
ويفند فريري قوله هذا بالتأكيد على أنه كلما زاد انهماك الطالب في تخزين ما يودع في ذهنه قلت إمكانية تطويره للوعي النقدي، وزادت إمكانية قبوله للدور السلبي المفروض عليه من خلال "التكيّف" مع وضعه في العالم، ومع نظرته المجزأة للواقع التي سبق أن أودعت فيه.
كما أن المضطهِدين يستخدمون "نزعتهم الإنسانية" للحفاظ على وضعهم من منطلق الربحية؛ ولذلك هم يعارضون أي تجارب في مجال التعليم من شأنها تحفيز "القدرة النقدية"، وهذا من شأنه أن يحفّز الطلاب السلبيين في وقت ما على رفض عملية تدجينهم.
لكن فريري يعتقد أن المربي ذي النزعة الإنسانية لا ينتظر هذه اللحظة بل يعمل على أن تتطابق جهوده مع جهود طلابه في الاشتراك بالتفكير النقدي والسعي لتحقيق "أنسنة" متبادلة، ويجب أن يكون لديه ثقة عميقة في الناس وفي قدرتهم على الإبداع، ولتحقيق ذلك عليه أن يكون شريكاً للطلاب في علاقته بهم، رغم أن المفهوم البنكي لا يقرّ مثل هذه الشراكة لأن العلاقة بين الطالب والمعلم علاقة تناقض لا اشتراك، وتغيير دون "المودع" إلى دور طالب سيقوض سلطة الاضطهاد ويخدم قضية الأنسنة والحرية.
