لو سألت الناس من حولك إذا كان أي منهم مستعد للعودة إلى عام 1995 أي قبل 20 عاما فقط لوجدت أنه تقريبا لا أحد يستطيع أن يتخيل حياته بلا موبايل أو إنترنت. باختصار: عدم امتلاك أي إنسان لتكنولوجيا الاتصالات يعني اليوم حياة تشبه البدائية أكثر من أي شيء آخر.
هذا التغير الخرافي في الحياة من حولنا في فترة قصيرة أحدث تحولا في القيم العالمية، فالأمم المتحدة صارت تعتبر الاتصال بالإنترنت حقا من حقوق الإنسان الأساسية التي لا تقل عن حقه في الحياة والغذاء والعلاج والتعليم، وهذا بدأ ينعكس تدريجيا على ممارسات الأمم المتحدة ووثائقها. هناك حجم كبير من الأبحاث عما يسمى بـ"الفجوة المعرفية" (Knowledge Gap)، أي الفجوة بين من يملك القدرة الاتصالية وبين من لا يملكها، وهي فجوة يرى الكثير من الباحثين أنها تزيد الفقراء وسكان المناطق النائية فقرا وجهلا وضعفا في اللحاق بالأفضل حالا والذين يملكون الاتصال بالإنترنت السريع. هذا لا ينطبق فقط على أفريقيا التي خصصت الأمم المتحدة صندوقا خاصا لدعم الخدمات الاتصالية فيها، بل ينطبق حتى على أحياء مدينة مثل نيويورك يخاف القائمون عليها من الأثر السلبي لهذه الفجوة، التي قد تنتج عن عدم قدرة الأقل حظا فيها من دفع تكاليف الإنترنت السريع في منازلهم وعلى جوالاتهم.
كنت قبل أكثر من عام في لوكسمبرج، وكان رئيس وزراء الدولة يتكلم بفخر عن إنجاز دولته (وهي دولة صغيرة جدا مساحة وسكانا) في إيصال الإنترنت السريع (البرودباند) إلى كل منزل كواحد من الإنجازات التي يرى أنها ستمهد للوكسمبرج أن تكون مركزا تجاريا في أوروبا (وهو ما يحصل فعلا).
في أستراليا، أعلن عن مشروع بتكلفة 39 مليار دولار لربط الإنترنت بمختلف أنحاء الدولة، بل إن إحدى المقاطعات أعلنت أنها ستمول وصول الإنترنت السريع لكل المنازل بسرعة تصل إلى 100 ميجابيت في الثانية أي تقريبا 20 إلى 40 ضعف الإنترنت السريع (Broadband)، على أساس أن هذا سيحول المقاطعة إلى مركز لتجارب الشركات التي تريد تجربة منتجات مستقبلية تعتمد على الإنترنت السريع في كل المنازل.
هذا كله يشرح لماذا يعتبر إعلان هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات الأسبوع الماضي عن مرحلة جديدة من "مشاريع الخدمة الشاملة" لتوفير خدمات الاتصالات والإنترنت ذات النطاق العريض للمناطق النائية أمرا حيويا ومثيرا للإعجاب والتقدير. لمن لم يطلع على تفاصيل المشروع، الذي بدأ قبل عدة سنوات، ويستهدف كل التجمعات السكانية في المملكة بخدمات الموبايل والإنترنت السريع: المشروع تقوم هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات بتمويله بالكامل، وتقوم شركات الاتصالات بتنفيذه بناء على مناقصات تطرحها الهيئة. شركات الاتصالات عادة لا ترغب في الاستثمار في التجمعات النائية والصغيرة لأن عائدها التجاري أقل من دخلها المالي، وبالتالي هي عادة تبتعد عن المناطق النائية بشكل عام.
في مختلف دول العالم تتم معالجة الأمر بالضغط على شركات الاتصالات بطريقة أو أخرى لإيصال الخدمات كجزء من مسؤوليتها الاجتماعية، ولكن هذا الضغط يصبح أصعب وأقل عملية في دولة مترامية الأطراف ومعقدة التضاريس مثل المملكة، ولذا يصبح هذا التمويل أمرا أساسيا ومسرعا لتحقيق الإنجاز. المشروع الذي تم إطلاقه الأسبوع الماضي هو الثامن في سلسلة مشروعات تغطي أكثر من مليونين ومائتي ألف شخص في 66 محافظة، والهدف في النهاية أن أي تجمع سكاني من 100 شخص أو أكثر لديه القدرة الاتصالية (موبايل وإنترنت سريع)، وأي تجمع سكاني أقل من ذلك يجدها في إطار عشرة كيلومترات.
لو كانت هناك كاميرا تلفزيون تصور لحظات ومشاعر سكان قرية صغيرة عندما تصلهم خدمة الموبايل أو الإنترنت، لرأينا مشاعر لا تقل عن شعور الإنسان بتحقيق أي شيء عظيم في حياته. الاتصالات لم تعد أمرا ثانويا في حياتنا، وهي تستحق هذه العناية وهذا الإنفاق بكل تأكيد.
خلال عشر سنوات قادمة سيكون الإنترنت والموبايل أمرا بديهيا في حياة كل الناس في الدول المتقدمة اتصاليا ومنها المملكة، وسيكون الرهان على مدى سرعة الإنترنت، وهذا يفسر الزخم الكبير لإعلان كوريا الجنوبية الأسبوع الماضي عن بدء مشروع الجيل الخامس للجوال الذي ستزيد سرعته عن 20 ضعفا لسرعة الجيل الرابع. هذا يعني باختصار أن المنافسة في سرعة الإنترنت هي جزء من المنافسة في التقدم والتطور بين دول العالم.
خلال سنوات قادمة، لا أستغرب لو صار الناس يقولون:
قل لي سرعة اتصالك بالإنترنت، أقل لك من أنت..!