لو كان الأمر بيدي لنظمت معرضا يحوي كافة الصور التي التقطت لوجه "الأخضر الإبراهيمي" في مؤتمر "جنيف 2" فوجهه خلال هذا المؤتمر أصدق من خطب رنانة فبركت قبل إلقائها.. والذي سبق له أنه كلف من طرف الأمم المتحدة للتفاوض في العديد من بؤر التوتر انتهى العديد منها بنجاح، من اختار "الإبراهيمي" لإيجاد حل لسفك الدماء الدائر في سورية منذ سنوات، اختاره بناء على خبرته ونجاحه في التفاوض مع العديد من التجمعات البشرية المتناحرة..
لقد قام الإبراهيمي منذ تكليفه بهذه المهمة عام 2012 بزيارات مكوكية متتالية.. فغرد هنا وهناك أو لنقول ناح هنا وهناك، وكان دائما يرجع بخفي حنين، أما المتابع لتصريحاته الصحفية خلال مؤتمر "جنيف 2" فسيدرك أنه دبلوماسي من الدرجة الأولى يزن كلماته بميزان الحكمة.. التي مع الأسف لا ترقى لمستوى الأحداث الدموية اللا إنسانية الجارية على أرض الواقع.
فبينما يستعرض طرف المعارضة جرائم بشار بالأدلة والوثائق المدعمة أمميا، ظهر الطرف الجاني بتسويف وتشويه ما تابعه العالم بأسره على مدار سنوات. جاعلا من نفسه المحامي والمدعي والقاضي في الوقت نفسه.
لكن اللافت في هذا المؤتمر ليس تصريحات "الإبراهيمي" ولا تصريحات غيره، ولا يمكن بحال أن تكون النتائج هي اللافته للأنظار، اللافت للنظر من وجهة نظري هي لغة الجسد التي لم يتمكن الساسة الذين شاركوا في "جنيف 2" من إخفاء مضامينها ورسائلها، فقد كان واضحا ما يعتريهم من ضيق وقلقل وعدم ارتياح، ولا أشك مطلقا أن الواحد منهم تمنى لو خرج ولم يعد، فهم يمثلون الإخوة الذين تحولوا إلى أعداء بسبب ذاك الأفاك وزبانيته..
أما السيد "الأخضر الإبراهيمي" فيكفينا النظر في ملامح وجهه الثمانيني لنرى أنه خلال الأشهر الماضية تجاوز من عمره عقودا، فمن ينظر إلى ملامحه المنهكة يشعر أنه تجاوز التسعين.
سيدرك أنه حضر تلك الاجتماعات كتحصيل حاصل ليس إلا، فهو وقبل أن يعلم ابتداء الحوار بين الأطراف كان مقتنعا أن النتيجة الوحيدة لهذا المؤتمر ستكون أن الاعداء اجتمعوا ولو كان اجتماعهم قائما على نية تدمير الآخر.
لم أكن لأتوقف كثيرا عند كافة مجريات الأمور الدائرة داخل أروقة المؤتمر فقد كفاني ذلك متابعة جلساته الأولى، لكني كنت أتطلع وبشكل عام لتلك الصور المعبرة لوجوه المشاركين فيه، ولوجه السيد "الإبراهيمي" بشكل خاص.. فقد رسمت معالم نتائج هذا المؤتمر النهائية، واختار "الإبراهيمي" الاقتداء بشهريار فسكت عن الكلام المباح.
أما ابتسامة "الإبراهيمي" الدبلوماسية فهي بالتأكيد غير مقنعة، ولن تخفف الاختناق عن سورية المحاصرة من الداخل ومن جيوش التهمته من الخارج، فوجهه العابس أكثر إقناعا من تلك الابتسامات الصفراء التي أخرجها رغما عنه، ففي بعض اللقطات يخيل للناظر أنه قابع في سجن بشار عاجز عن الحراك.
المحزن أن هذا الرجل الذي قضى عمره يخدم بلاده والإنسانية على اختلافها، قد ينهي حياته السياسية بفشل ذريع.. بسبب ارتباطه بهذه القضية المستعصية.
نعم.. ما زلت - مع الأسف - أعتقد أن الحل يكمن في التدخل العسكري.. مع أني لا أستطيع تقييم الأمور من داخل سورية جراء ما نتج عن تقاعس العالم عن نجدة أهلها، فبسبب هذا الموقف السلبي تشعبت الفصائل المتناحرة في سورية، كما أفسح المجال للتدخل الأجنبي الداعم لذاك السفاح بقيادة إيران ومن يتحركون بأمرها.
لنعود إلى "الأخضر الإبراهيمي" وأطلب من القارئ الفاضل - لو لديه الوقت الكافي- تتبع صوره في هذا المؤتمر، إذ سيجده تارة قد أغلق عينيه بقوة موحيا للناظر برغبته في الفرار إلى ما لا نهاية، وتارة سيجد خطوط جبهته قد ظهرت أكثر حدة وعمقا، وتارة سيجد ظهره قد انحنى بشكل فاق المعتاد.. فقد أنهك نفسه بالدوران في دائرة مفرغة من أي نية لإنهاء القضية، فكل طرف في النزاع يرفض الإنصات للطرف الآخر، فالمظلوم قد تجرع ظلم الظالم، والظالم يخشى أن يتحول إلى مظلوم.
"جنيف 2" هو اجتماع بروتوكولي ليس إلا، لم يؤد بحال من الأحوال إلى اتفاق - والله أعلم - فالمعطيات الحالية والسابقة له تؤكد ذلك.. ولو انتهى الاتفاق إلى وقف إطلاق النار فالراجح أنه سيتم نقضه.
أما طرح ضرورة وصول الإمدادات الإنسانية للمحاصرين في سورية واللاجئين في الأردن وتركيا ولبنان فلن يجد الآذان صاغية من رجال بشار، وسيغض العالم طرفة مجددا عن استغاثات أهل سورية المحاصرين واللاجئين، ولن تتحرك أفئدة الساسة لاستغاثة الضعفاء.. كاستغاثة الشيخ المسن ببلدة "بيبيلا" بريف دمشق الذي فقد كافة أولاده وزوجته بسبب نظام بشار، ذاك الشيخ المسن الذي بكى جوعا وصرخ قائلا: "جوعانين يا الله"، لقد أدرك يقينا أن المغيث هو الله سبحانه، وأن عباده انعدمت الرحمة من قلوبهم، وأن العالم الذي تجاهل هذا الوضع المأساوي للشعب السوري سيواصل تجاهله إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.