الحديث عن الوطن في يوم الوطن ليس سهلاً كما يبدو، ذلك أن الوطن في يومه لا يحتاج منا الإشادة بقدر احتياجنا نحن لاستذكار واجبنا تجاه وطننا، فبلادنا التي حققت قفزات سريعة في التنمية خلال عقود سابقة، ها هي اليوم تستمر في تنميتها، ولكنها تتجه نحو مستقبل "اقتصاد المعرفة"، وهو الاتجاه الذي تنشده المجتمعات المتقدمة حالياً، وذلك ضمن اتجاه وطني شامل، يهدف لوضع اقتصادنا على طريقٍ يكفل رفاهية الحاضر، واستدامة المستقبل.
والشواهد على ذلك كثيرة، وأهمها الاستثمار الضخم في كافة مستويات التعليم، سواء التعليم العام، من خلال الزيادة المطردة في أعداد مدارس البنين والبنات، أو مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم، الذي بدأت بعض بوادره تظهر في تطوير المناهج، ورفع كفاءة المعلمين، وتحديث آلية العمل التربوي، كما أن التعليم العالي حقق قفزات هائلة خلال أقل من عشر سنوات، فمن ثماني جامعات مركزية، إلى عدد كبير من الجامعات الحكومية والأهلية، التي امتدت إلى أغلب محافظات مناطق المملكة، ناهيك عن الخطوة العظيمة بتأسيس حلم خادم الحرمين الشريفين وهي "جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية" في مدينة "ثول" على شاطئ البحر الأحمر، التي تبوأت مركزاً متقدماً بين الجامعات البحثية العالمية خلال فترة قصيرة، وأضحت مقصداً للباحثين وطلاب الدراسات العليا من كافة الأرجاء، وتزامن هذا التطور مع تقدم في برامج التعليم الفني والمهني، الذي حقق هو الآخر قفزات متعددة، ليس أهمها فتح المجال للفتاة السعودية في التعليم الفني والمهني، بل كان التوسع في أعداد الكليات التقنية، والعمل على رفع جودة وكفاءة المخرجات، بالإضافة إلى استقطاب الكفاءات السعودية للعمل والتدريب في منشآت التعليم الفني والمهني، وكذلك افتتاح مراكز تدريب متخصصة بالشراكة مع القطاع الخاص، مثل المعهد السعودي الياباني للسيارات، وآخر لصناعات البلاستيك.
كما لا يمكننا هنا أن نتجاوز مشروع خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، هذا المشروع الطموح الذي تجاوز عدد المستفيدين منه أكثر من 170 ألف طالب خلال السنوات الماضية، ويعتبر المشروع الأضخم عالمياً، وها قد بدأنا نلمس نتائجه الإيجابية بعودة أفواج الخريجين والخريجات من مختلف الحقول، مما سوف يكون له عميق الأثر على النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع السعودي، وكذلك على "اقتصاد المعرفة" الذي ننشده.
بالإضافة إلى أن أحد أهم مرتكزات "اقتصاد المعرفة" هو تطوير بيئة الأبحاث العلمية وجعلها أكثر قرباً من احتياجات السوق، وهو ما حدث بالفعل من خلال التوسع في إنشاء كراسي البحث العلمي، وإنشاء مراكز التميز العلمي في تخصصات محددة؛ الأمر الذي ساعد على ردم الفجوة بين بحوث الجامعات والاحتياج التطبيقي، ورأينا لأول مرة بحوثاً تنتقل من صحفات المجلات العلمية إلى أرض الواقع، فضلاً عن العمل على تشجيع الاستثمار في نقل التقنية، ودعم برامج إنشاء الحاضنات المتخصصة، والمؤشرات تؤكد أننا سوف نرى في المستقبل القريب بعضاً من منتجات هذه الحاضنات التي تتميز بأنها منتج سعودي حقيقي بداية من الابتكار، ومروراً بالتصنيع والإنتاج والتسويق، ووصولاً بالمنتج إلى المستهلك النهائي.
ومن جهة أخرى تتواصل خطوات "الهيئة العامة للاستثمار" نحو تحسين بيئة الاستثمار بالمملكة، والتركيز على جذب الاستثمارات الأجنبية ذات البعد التقني المتقدم، مع الحرص على نقل التقنية بواسطة توطينها عبر الزيادة المتدرجة لأعداد العاملين السعوديين في تلك المصانع، ومؤخراً سعدنا بخبر إعلان بعض المصانع العالمية بدء إنتاجها التجاري من مدينة الملك عبدالله الاقتصادية برابغ، مما يجعلنا أكثر تفاؤلاً بنجاح هذه المدينة "الأمل"، وأن تكون أنموذجاً يحتذى به بين بقية المدن الصناعية الجديدة، كما أن توجه وزارة التجارة والصناعة لتشجيع تأسيس التجمعات الصناعية المتخصصة سوف يساعد على بناء صناعات قوية ذات ميزات تنافسية؛ مما يؤهلها لبناء سلسلة من الصناعات التكاملية، التي سوف ترتقي بالمنتج السعودي نحو جودة أفضل وكلفة أقل.
لذا ونحن نحتفل بذكرى يومنا الوطني المجيد، يجب أن نعمل بجدٍ أكبر وعزيمة أقوى نحو رفع كفاءة اقتصادنا الوطني، ونحو تحقيق "اقتصاد المعرفة" بمفهومه الحقيقي، وهذا الأمر لن يتحقق إلا بعد تضافر جهودنا جميعاً، وأهمها بناء الفرد السعودي، خصوصاً في الجانب المهاري، وهي مهمة أساسية تقع على عاتق الفرد أولاً قبل أي شيء آخر، فنحن أبناء هذا الوطن، ونحن من سوف يرفعه عالياً.