سانحة دلالية وشذرة ترجيعية تلك العنونة التي اختارها الأديب الشاعر أحمد التيهاني، لواحدة من مقالاته عبر تعاشق حميم وتمرير لمطلع شهير لقصيدة فاتنة ذات مذاق عذب واستقراء مدهش، حين استل مفتتح قصيدة الشاعر والمؤرخ محمد أحمد العقيلي: "جازان إني من هواك لشاكي"، فقد أعادني التيهاني إلى لحظات استغراقية منصرمة مليئة بالذكريات المتواشجة والبعيدة، وأفلح في فتح مغاليق تلك الفضاءات الغاربة، ومنها ذلك البرنامج التلفزيوني الذي كنت أعده وأقدمه قبل ثلاثين عاماً بمسمى: "رجل وذكرى"، وقد استضفت ذات مساء جازاني المؤرخ الكبير محمد العقيلي، ولامس الحوار جسد تلك القصيدة الرهيفة ولماذا اختلف مطلعها؟ حيث يقول العقيلي: جازان إني من هواك لشاكي... فتنصتي لهزارك وفتاك، ومرة أخرى: "جازان إني من هواك لشاكي.. أفتنصتين لبلبل غناك؟، فقال لي: "إن التعديل والتبديل في المطلع الثاني جاء على يد الأديب عبدالقدوس الأنصاري رئيس تحرير مجلة المنهل".

التعديل ظاهرة مألوفة في الشعر العربي المعاصر، فالتقاطعات والتفريعات والدلالات المبتكرة هي هاجس ملح عند الشعراء، مما يعكس الإحساس المشبع بالنزوع إلى الاكتمال والإفراط في البحث عن الجوهر، إنضاجا للتجربة والاستبصار الأعمق فيعمدون إلى الهدم والبناء في براعة واحترافية صياغية وجمالية. يقول الشاعر محمد الفيتوري: "حين تخرج القصيدة مني أعود إليها بعد يومين، أجلس وكأنني في ورشة عمل، وأستبدل كلمة بأخرى وبيت بآخر، وأقيس المعنى مع النغم والوزن مع القافية"، بل إن أكثر الشعراء العرب المعاصرين "تبديلاً وتعديلاً" هو الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، عمد إلى إسقاط قصائد كاملة في شعره وأبيات مختلفة في قصائده، كونه كثير التجويد في شعره، ولأنه كما يقول الدكتور حيدر الغدير: "شاعر صنعة أكثر منه شاعر طبع". يقول في قصيدة "جان دارك": فبدت تصلي للصليب صلاة فائزة طروبة... فإذا به مازال يرمقها بنظرات رهيبة، لكن هذا الختام وفي البيت الثاني يصبح: فإذا به يحنو عليها بابتسامته الحبيبة، ويقول في قصيدته "خداع": سمعت بأذني صوت الضمير يردد يا وغد لا تعتد، ليجعل البيت هكذا: سمعت نداء الضمير الجريح يتمتم يا وغد لا تعتد، وأحياناً يحذف بيتاً لم يرق له ففي قصيدته "يا عيد"، نجد هذا البيت في طبعة ثم لا نجده في طبعة تالية: فأطمعت كل باغ في كرامتها... لا يلطم الليث إلا وهو مصفود، وهكذا كان أبو ريشة يحذف ويضيف ويبدل لدواع فنية أو سياسية أو ذوقية، كما يقول الدكتور الغدير، فقد حذف تسعة أبيات من أوبريت "عذاب"، وثمانية أبيات من قصيدة "خداع"، وخمسة أبيات من قصيدة "جان دارك"، وزاد ستة أبيات في قصيدة "محمد"، وأربعة أبيات في قصيدة "شاعر وشاعر".