في إطلالة على تاريخ الشعوب، نجد أن مختلف الحروب كان ضحيتها الإنسان، فهو الخاسر الأول والأخير، إذ يعود البشر إلى صورتهم الوحشية الأولى، ولكن بجلد آخر ومبررات تقف خلفها الغرائز والدوافع. فالعقدة البشرية تعود إلى طبيعة الكون والكائنات فيه، المجبولة على الاقتتال والتدافع من جانب، والتعاون والبناء من جانب آخر. وكان الإنسان استثناء من قاعدة الكائنات بعقله الذي يمكن له أن يسيطر على بقية الكائنات ويطوعها لاستمرار بقائه ورعاية مصالحه.

وفي الحروب غالباً ما يكون المبرر المعلن هو "قدسية الحرب" وأخلاقيتها، غير أن القلة الذين يحركون الكثرة عادة يعلمون جيداً أنهم يوظفون "الإنسان" للقيام بحرب بالوكالة لتحقيق الأهداف غير المعلنة. ولا يكون الإنسان واعياً بهذه الأسباب إلا بوعيه بذاته أولاً وبالعالم وحضارته تالياً.

وبما أن منطقة الشرق الأدنى القديم (الشرق الأوسط حالياً) من أهم مناطق الحضارات القديمة عبر التاريخ، وتشمل هذه المنطقة الحالية جغرافية العالم العربي من المحيط إلى الخليج وربما تشمل دولاً أخرى مثل تركيا وإيران.

غير أن احتمالية تدمير هذه الحضارات العريقة في المنطقة تكمن في احتمال أن تعيش مجتمعات هذه المنطقة حرباً طويلة المدى، وقد اشتعلت بوادر هذه الحرب منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي-العشرين. أسبابها الحقيقية تكمن بالدرجة الأولى خلف الاقتصاد، وإن كانت مبرراتها المعلنة سياسية، وفي الأخير تأتي الدواعي والمبررات الدينية والمذهبية المعلنة.

الإشكالية الطائفية في تنامٍ مستمر اليوم، تدفعها السياسة من جهة وجهل المجتمعات من جهة أخرى، وبالتالي فرصة ليست محصورة بوجود الخلاف التاريخي بين الطوائف السنية والشيعية، وإنما ربما تكون (المناوشات) الأخرى مدخلاً عنيفاً للتصنيفات على المستوى الديني والطائفي والفكري، التي سوف نشهدها مستقبلاً، وتكون تجسيداً حقيقياً لتقسيم المجتمعات وتفتيتها.

لقد عاشت أوروبا حروباً مختلفة ذات أسباب اقتصادية وقومية إلا أن الجانب المذهبي والديني كان حاضراً رغم تنامي الشعور الوطني والقومي، إلا أن الحرب هي الحرب، مهما كانت أسبابها ومبرراتها، ولذلك فإن الدور المحتمل الجديد على منطقة الشرق الأوسط هو بتجسيد مسرحية مئوية جديدة يكون بطلاها المذهبين الأساسيين في الإسلام الشيعي والسني. فمن المعروف أن الطائفة من الروابط التقليدية القديمة، وإذا لم يتوفر بديل لها فستكون الملاذ الأول والأخير للمنتمين لها.

وعلى هذا الأساس فإن حرب المئة عام قد بدأ التمهيد لها فعلياً من خلال (إسقاط الهوية المدنية) في الدول التي بدأت بتأسيس ذاتها على أسس علمانية، مثل أفغانستان، التي أسقطت هويتها المدنية في سبعينيات القرن الماضي، بعد خلاف على السلطة أدى إلى إغراق الدولة في تجاذبات دولية أغرقتها بالهوية الدينية وجعلتها من أكثر الدول تخلفاً اليوم.

وكذلك الأمر في إيران قبل ثلاثة عقود ونصف، حيث أسقطت هوية إيران المدنية بإسقاط نظام الدولة والمجتمع العلمانيين من خلال إسقاط حكم الشاه محمد رضا بهلوي، وبدأ الشحن الطائفي والعودة بالإيرانيين إلى الطائفية المقيتة من خلال شعارات التصدير المذهبي والتشنج الطائفي، رغم الإرث التاريخي والحضاري والاجتماعي المهم لإيران. وبعد خمسة وثلاثين عاماً نجد بين فترة وأخرى محاولات إصلاحية يقودها ناشطو السياسة والثقافة في المجتمع الإيراني، لإعادة المجتمع إلى طبيعته وتحريره من سلطة التديّن الأيديولوجي.

ويبدو أن الدور أيضاً في إسقاط مدنية الدولة والمجتمع جارٍ على الجمهورية التركية حيث يحاول "متأسلمو" تركيا اليوم إسقاط هذه الهوية تدريجياً وإغراق المجتمع بالأيدجيولوجيات الدينية.

أما المنطقة العربية فإننا نشهد بقوة تراجع فرص مستقبلية الدولة المدنية من خلال فشل تجربة تحرير الشعب العراقي الذي ما زال حسيراً كسيراً يعاني ويلات الإرهاب ودماء الطائفية، وكذلك الأمر في لبنان الذي لا نتمنى أبداً عودته إلى حقبة "حرب الطوائف"، إلا أن فرص حرب المئة عام في التشكل قد ازدادت من خلال انخراط دول عربية في ثورات (الربيع العربي) التي اتضح أنها حتى الآن مجرد "لحظة راهنة" لتسليم جماعات الإسلام السياسي زمام السلطة، وبالتالي إعادة المجتمع إلى الهويات الدينية المتعصبة، وعلى الرغم مما حصل من قلب لموازين القوى في مصر، وما تشهده تونس من مقاومة نتيجة وجود مجتمع مدني قوي فيها، إلا أن دولاً أخرى مثل ليبيا ظهرت فيها أشكال التطرف والجماعات المسلحة، وهذا كفيل بإسقاط فرص تحولها إلى دولة مدنية، أما سورية الجريحة فقد تضافرت عليها المصالح لتصبح مرتعاً للإرهاب ومستقبلها أسود كالليل المظلم!

أما دول الخليج العربي، دول الرفاه إن جاز التعبير، فما تشهده من تنمية وفرص لتشكل مجتمعات مدنية بدأت تظهر فيها بذور الانقسام الاجتماعي من خلال عدة أشكال منها الطائفة، والقبيلة، والتصنيف الفكري أيضاً.

إذن، دول العالم الأول تسعى إلى إبقاء دولها ومجتمعاتها في الإطار "المدني"، لأن المدنية هي الشكل الأفضل للاستقرار الشامل، بينما تسعى قوى أخرى إلى طمس هذه الهوية عن دول العالم الثالث لتزيد فرص الحرب وبالتالي تزيد فرص المكاسب على حساب الخاسرين!

نحن اليوم بحاجة إلى وقفة مع الذات، مع المستقبل، ومع الأجيال القادمة التي سوف تعيش تبعات الأطماع السياسية، وتشنجات المتعصبين والطائفيين، الذين يوجهون الرأي العام بالمبررات الطائفية ويعبئون أذهانهم بـ(الأيديولوجيا)، فهؤلاء كمن يوقد ناراً حطباً، لا تهمه إلا التدفئة وإن أحرقت النار الأول والآخر والأخضر واليابس؛ ولذلك يفترض أن نتجه إلى العقلانية وإلى العقلاء من المفكرين، والمثقفين، ورجال الدين، وممتهني الفنون، والمهتمين بكافة العلوم الإنسانية، ليضعوا الإنسان نصب أعينهم، وإلا فسوف يحاكمنا تاريخ الأجيال القادمة بقسوة لا تحتمل.