في يوم الأربعاء الماضي "22 يناير" انعقدت الجلسة الافتتاحية لمؤتمر "جنيف2" المخصص للقضية السورية، في احتفال كبير رفيع المستوى. وكان النظام السوري والمعارضة السورية ممثلين في الاجتماع، كما حضره ممثلون من الدول الكبرى والدول المعنية بالقضية.

وكانت المعارضة، ممثلة بالائتلاف الوطني آخر من أعلن مشاركته؛ لأنها لم تكن مقتنعة بأن النظام قد قبل حقا بمرجعية "جنيف1"، أي بالمبدأ الذي بُني عليه المؤتمر، وهو تشكيل حكومة انتقالية ذات صلاحية تنفيذية وعسكرية كاملة، ليس للأسد ومعاونيه فيها دور. وبعد أن تلقى الائتلاف تأكيدات بأن النظام قد قبل بمرجعية "جنيف1"، وافق على المشاركة في المؤتمر.

ولكن هل فعلا سيخرج المؤتمر بتوافق على تسليم السلطة للشعب السوري؟

حالما بدأ المؤتمر، بدأ ممثلو النظام بتغيير قواعد اللعبة، بحديثهم عن الحاجة إلى مكافحة الإرهاب ووصفهم المعارضة بالخيانة والعمالة والتخريب، ولم يتحدثوا عن مرجعية "جنيف 1" أو مبادئه. وبأسلوب النظام المستلط المعتاد، لم يلتزم ممثلوه بالوقت المخصص لهم أو بأي من القواعد التي وضعها المنظمون.

وهيأ الافتتاح الدولي للمؤتمر الأجواء للقاءات الثنائية بين النظام والمعارضة، لأول مرة منذ اندلاع الثورة في عام 2011. وعقد أول لقاء بينهما في جنيف يوم السبت "24 يناير" متأخرا يوما واحدا عما كان مقررا. وحسب الاتفاق، بدأت المباحثات غير المباشرة عن طريق المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي، بمناقشة الوضع الإنساني في مدينة حمص؛ تمهيدا لمناقشة القضايا الأكثر تعقيدا، وعلى رأسها تشكيل السلطة الانتقالية.

ومن السابق لأوانه التكهن بنتائج المؤتمر، ولكن أقوى الاحتمالات هو ألا يتوصل إلى نتائج سريعة أو حاسمة. والسبب هو طبيعة النظام الدموي الذي يتشبث بالسلطة بأي ثمن، وعدم وجود بوادر من أن مؤيديه الثلاثة "إيران وروسيا وحزب الله" على استعداد للضغط عليه للتوصل إلى حل والقبول بالتخلي عن الحكم.

وكان هناك تطوران خلال الأسبوع الماضي يوضحان طبيعة النظام القمعي في سورية، ويؤيدان نزعة التشاؤم حول نتائج المؤتمر. الأول هو ما أظهره تقرير مفصل لإحدى كبار منظمات حقوق الإنسان عن طبيعة النظام، إذ يوثق القتل الجماعي من قبل النظام للمدنيين، والتعذيب الممنهج، والاعتقال العشوائي، وتغييب المعارضين بالجملة، تقوم به عشرات المؤسسات الأمنية على مستوى ضخم لم نره خلال عقود.

أما التطور الثاني، فقد كان أخبار أحد المنشقين من إحدى تلك المؤسسات، لم تُكشف هويته حتى الآن، تمكن من تهريب عشرات الآلاف من الصور والوثائق، تكشف حجم وأبعاد انتهاكات النظام السوري. ويمكن أن توفر هذه الصور أدلة دامغة تدين النظام وأعوانه أمام محكمة الجنايات الدولية.

ففي يوم الثلاثاء الماضي "21 يناير"، نشرت منظمة "هيومان رايتس ووتش" الأميركية تقريرها السنوي عن انتهاكات حقوق الإنسان، وكان نجمه هذا العام النظام السوري. وقد طورت هذه المنظمة، منذ عام 1989، خبرة خاصة في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سورية، ومنذ بدء الانتفاضة السورية في مارس 2011، نشرت العديد من التقارير التي تم تلخيص نتائجها في تقريرها المنشور الأسبوع الماضي، وهي في مجملها تشكل ضربة قاضية لدعايات النظام في جنيف ومحاولته بالظهور بأنه دولة تستحق الاعتبار والبقاء.

وثق تقرير المنظمة استخدام القنابل العنقوية والأسلحة الكيماوية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل التي استخدمها النظام دون تمييز، ضد المناطق المأهولة بالسكان، والمدارس والمستشفيات، فاستخدم النظام مثلا القنابل العنقودية أكثر من مئتي مرة خلال عام 2013، في (9) من أصل (14) محافظة، في انتهاك صريح لاتفاقية الذخائر العنقودية التي أبرمتها الأمم المتحدة في عام 2008. ووثق التقرير كذلك مئات من حالات الإعدام الميداني دون محاكمة، قُصد بها عمدا إرهاب السكان ودفعهم للهرب. ويُظهر التقرير مدى الوحشية التي استخدمها النظام في قمع الانتفاضة الشعبية، وتفريغ مدن سورية وأريافها من سكانها، بحيث تجاوز عدد المهجرين داخل سورية خمسة ملايين وأرغم أكثر من ثلاثة ملايين على مغادرتها إلى الدول المجاورة.

ومما امتاز به النظام السوري منذ بدايته الاعتقال العشوائي، وتغييب المعارضين، وقد ازداد ذلك سوءا وحجما منذ عام 2011. وحين تقرأ توصيف طرق التعذيب، وترى صورها، تشعر كما لو كنت تقرأ دليلا وضعته محاكم التفتيش الأوروبية. ومثل نظرائهم في القرون الوسطى، تفنن أساطين التعذيب، وهم يعملون في عشرات من مؤسسات النظام القمعية، في اختراع أساليب للتعذيب يتلذذون بها ويمنحونها أسماء شاعرية في سادية ممجوجة.

أما التطور الثاني، الأسبوع الماضي فقد كان ما ذكرته من أن منشقا من إحدى المؤسسات القمعية قد هرب من سورية ومعه (55,000) صورة فوتوجرافية لنحو (11,000) شخص تعرضوا للتعذيب والقتل، تثبت أن التعذيب والتجويع والإعدامات تتم على نطاق واسع وممنهج، وتم توثيقها بشكل مفصل ودقيق.

وحسب الأخبار، فإن المنشق، الذي لم تُكشف هويته حتى الآن، كان يعمل مصورا في إحدى تلك المؤسسات، ويجري حاليا فحص الصور وتبويبها من قبل محامين متخصصين وخبراء في الطب الشرعي وحقوق الإنسان؛ تهيئة لتوظيفها كأساس لرفع الدعاوى أمام محكمة الجنايات الدولية. ففي الماضي باءت محاولات إحالة المسؤولين السوريين للمحكمة بالفشل؛ بسبب رفض روسيا لتلك المحاولات، والآن يأمل الخبراء بأن توفر هذه الصور والشهادات أدلة لا تقبل الشك، تجعل من الصعب على أنصار النظام الوقوف ضد إحالة الأسد وأعوانه إلى المحكمة.

ولذلك، وبهذا السجل الملطخ بالدماء بهدف الاحتفاظ بالسلطة، هل من المتوقع حقا أن يوافق النظام السوري على تسليم السلطة إلى الشعب السوري طواعية في مؤتمر "جنيف2"؟