خلق الله هذا الكون بتعادلية عجيبة تنم عن عظمة الخالق سبحانه وتعالى، فالخير يقابله الشر، والارتفاع والانخفاض، والنجاح والفشل، والسعادة والحزن، والغنى والفقر، والعطش والارتواء، والحياة والموت، والخصوبة واليباب، وهكذا حتى ننتقل إلى موضوع اليوم: الذكاء والغباء، والذكاء نعمة، ومحبب لكن الغباء نقمة، وقد دخل إلى الثقافات بجميع أنواعها وأماكنها ومصادرها وتنوعها، ومصطلح "التغابي" محمود في مواقع ومذموم في أخرى ناجح مع البعض وفاشل مع آخرين، وبعض الذين ينجحون فيه يؤدون التغابي بذكاء، بمعنى آخر يتغابون بذكاء، والصنف الآخر يتذاكى بغباء، والتغابي هو نوع من التذاكي ولذلك نستطيع القول إن الصنف الثاني يتذاكى بغباء بينما الصنف الأول يتغابى بذكاء، وهذا الصنف هو الأكثر نجاحاً، وعندما نقول إنه أكثر نجاحاً لا يعني أنه يتغابى بذكاء لفضيلة يؤديها، فإذا كان كذلك فهنا يمكننا القول إن هذا النوع من التغابي محمود بل مطلوب، والأرجح عندما يكون في العلاقات سواءً الزوجية أو الشخصية أو الرسمية أو غيرها من العلاقات على المستوى الشخصي أو الدولي والتي يهدف إلى استمرارها، وقد يكون لتحقيق مصالح محددة: مثل النجاح في الحياة بمختلف تصنيفاتها، سواء في العمل أو التجارة أو العلاقات أو الإصلاح أو غير ذلك. وفي المقابل قد يكون التغابي ذكياً للاستدراج، أيضاً على كل المستويات، فتمر على أمر أو قضية وكأنك لا تفهمها حتى تصل بالطرف الآخر إلى موقع تكون هزيمته فيه حتمية، ولذلك يتم التغابي بذكاء لأهداف فاضلة وأهداف شريرة، وقد ينجح كلا الطرفين في تحقيق هذا النوع من التغابي، وهناك من يبدع فيه أيضاً بهدف الخير وبهدف الشر.
يقول لي أحد الزملاء: إنه في التعامل مع زملائه يكتشف العديد من السلبيات التي لا تصل إلى الخط الأحمر وبعضهم يظن خطأ أنه قد مررها عليه وذلك بسبب أنه لم يناقشها معهم بهدف ضمان ولائهم واستمرار العلاقة الحميمة في العمل، والتي تضمن الانسجام والتناغم وسير العمل بإيقاع سلس لا يتم فيه الوقوف أمام كل سلبية ومناقشتها وضياع الوقت فيها، هذا التغابي يقول ذلك الصديق "حقق مستوى معينا من الرضا لدى موظفيه وانعكس على أدائهم وتعاملهم مع الناس الذين لهم علاقة بإدارته"، بعض الذين يؤدون التغابي بطريقة غبية يفشلون لأنهم يستخدمونه في المواقع الخطأ.. إما بسبب أن هذه المواقع لا يجب التغابي فيها، أو بسبب تصرفاتهم في تطبيق هذا المفهوم بالتصرف بطريقة مستفزة تنجم عنها نتائج أسوأ من تلك التي تنجم لو تمت المصارحة فيها، وهنا يمكننا القول إن التغابي هنا كان غبياً، وهناك من يخلط بين التغابي كمفهوم يتم استخدامه على نطاق واسع لأهداف عديدة منها ما ذكرناه سابقاً إيجابية كانت أو سلبية وبين بعض الممارسات السلبية مثل التجاهل والكذب والاحتيال وتعمد النسيان وتجاهل الحقوق، وهذه الممارسات تنم عن شخصيات غير سوية ومثلها تماماً من يستخدم التغابي بشكل سلبي.
لكن ما نتحدث عنه في هذا الخلط أن من يمارسه يظن أنه يمارس هذا المفهوم بطريقة صحيحة، وهنا مشكلة فالأمر هنا يؤدي إلى نتائج عكسية وصراعات وخلافات بعكس التغابي لأهداف سامية، الذي يحافظ غالباً على الود وعلى العلاقات ويضمن سير العمل الرسمي بشكل سلس يكتنفه الود ويحيط به التعاون ويُتوجه الإنجاز، حتى التغابي بطريقة سلبية غالباً ما يكتنفه الخلاف والصراعات بسبب بسيط أن الناس غالباً لن يمر عليهم ما يحاول البعض تمريره حتى وإن تجاوزوا حياء أو سكتوا خجلاً أو مرروا تنازلاً، إلا أن التغابي السلبي والممارسات التي يتم الخلط فيها خطيرة في بعض المواقف ويصل خطرها إلى ذروته، وهنا يتم التحذير من هذه الممارسة على أمل أنها ستمر أو ظناً أن من يفعلها قد نجح، والأخطر عندما يتم "التغابي بذكاء" في أمور سلبية عند الأطفال ظناً أنها ستمر عليهم.
يا سادة صدقوني أن الأطفال أذكياء ويعرفون تماماً معظم ممارسات الكبار التي يظن الكبار أن هؤلاء الصغار لا يدركونها، بعض الأطفال أو لنقل غالبيتهم يسكتون بسبب صغر سنهم، إما خوفاً أو عدم دراية بأهمية الرد والتوضيح أنهم قد فهموا، وهنا نتحدث عن" التغابي السلبي"، أما التغابي بذكاء لأهداف إيجابية فهو مطلوب أيضاً مع الأطفال، كأن نمرر لهم بعض تجاوزاتهم التي لا تصل إلى الخط الأحمر، لأنه من الخطورة بمكان أن تكون ناقداً مستمراً لكل تصرف سلبي يتصرفه الطفل، يقول التربويون إننا إذا فعلنا ذلك نقتل روح الإبداع لديهم، وروح المبادرة وروح الإقدام، بل إنني أزعم أن التغابي بذكاء مع الأطفال مطلوب ومهم بدرجة أعلى من أهميته مع الكبار، تتشكل شخصية الطفل منذ نعومة أظافره، فإذا أحكمنا عليه الرقابة أصبح ينظر إلينا عندما يريد القيام بأي عمل أو تصرف ليأخذ الإذن حتى عندما يريد القيام بعمل إيجابي، هذا فيه خطر كبير على تربية الطفل وتكوين شخصيته، يقول أحد الحكماء: "النائم لا يتعثر" لهذا لا نريد أطفالنا أن يكونوا نائمين طوال حياتهم، نريدهم أن يبادروا ويبدعوا ويخطئوا عندما يفعلون ذلك، والخطأ هنا بهدف الإبداع والمبادرة محمود لأنه طريق للتعلم أو كما قال أديسون: "اكتشاف طريق لا يؤدي إلى الحقيقة" إنها عبارة تكتب بالذهب، فالخطأ اكتشاف لأنه يغلق طريقا كنا نظنه مفيداً ويدفعنا إلى أن نبحث عن طريق جديد قد يكون فيه كل الخير، هنا يكون "التغابي بذكاء" محمودا ومحمودا ومحمودا.
خلاصة القول: أن "التغابي بذكاء" ضربٌ من ضروب الذكاء إذا استخدم لأغراض إيجابية، وهو سلوك غير سوي عندما يستخدم سلبياً أو للإضرار بالناس وسلب حقوقهم، وهو أكثر سلبية عندما يستخدم لمراقبة سلوك الأطفال وإشعارهم بأنهم تحت المراقبة المستمرة لأنه يقتل فيهم روح الإبداع والمبادرة وينمي فيهم شخصياتٍ مهزوزة ومهزومة.