إن إحساسك بأنك عاجز لا تملك مفاتيح الحل، ملزم بمتابعة حروب نيرانها المتأججة تأكل الأخضر واليابس، نيران نفذها من يفترض أنهم إخوة لك، ملزم أن تتابع حياتك اليومية وتترك مشاعرك في مكان آخر، فأنت عاجز لأن أطراف النزاع يريدونك أن تكون كذلك، لأنهم يريدون المزيد من القتل والدمار ويريدون تحويل الإخوة إلى أعداء، يريدون تعرية العالم من وجهه الإنساني، يعشقون وجود "قابيل" بينهم ويعمدون لاستنساخ آلاف النسخ منه، متخذين من مقولة قابيل (لأقتلنك) شعارا لهم، إلا أنهم هيهات.. هيهات أن يقولون مقولته: (يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين).
القتل.. التعذيب.. الهمجية.. الوحشية كانت عناوينهم الأولى والأخيرة، ويخيل لي أنهم لا يتباهون بعدد الضحايا الذين سقطوا على الأرض كل يوم، بل بمن سقط بعد أن تجرع العذاب ألوانا.. فالموت السريع ليس الهدف الأساسي لهم، بل رؤية الإنسان وهو يضمحل رويدا رويدا ليصبح هيكلا لا حراك له هو كذلك.
أفهم أن يغضب أحدهم وأن يثور، ولكني لا أفهم المنطق الذي يحرض على التعذيب قتلا.. والقتل تعذيبا، لا أفهم كيف يمر أحدهم على جثث لمن هم أحياء وما هم بأحياء، لا أفهم كيف يراد لي ألا أتحرك، ولا أبكي ولا أتذمر ولا أعترض ولا أعارض ولا أطالب بالقصاص، ثم كيف لي أن أطالب بمحاكمة من مارس الإرهاب على فلسطين وشعبها.. إن كان هذا أو ذاك، والعالم يرى من يفترض أنه منا يمارس ويمتهن ويبتكر أساليب إرهابية وحشية غير مسبوقة في عالمنا المعاصر.
مع الأسف تعدى الأمر ليصل إلى صراع الفصائل العسكرية في سورية التي أصبح بعضها يقتل بعضه بعضا، ولا أستبعد أن يتضخم هذا الصراع ليصل خارج حدوده، ولا أستبعد تحقيق ذلك بدعم خفي من ذاك الذي تربع عنوة على السلطة في سورية وأعوانه.
الخوف أن نتجرع مرارة الظلم، ونحن من عجزنا عن نصرة المظلوم والقضاء على الظالم، فها هي أدخنة النار المحروق تخنق أنفاسنا وتحاول تفرقة جموعنا إلى سالب وموجب بينهما فاصل يمنع اجتماعهما، الخوف أن تتفرق بيوتنا وأجسادنا كذلك.. أن نضمر الكره لبعضنا بعضا وندعمه بمواقف، الخوف أن نسمح لذاك الوباء بالوصول إلينا والتمركز في كياننا.
ليخرج علينا أحدهم ويفهمنا ما يجري على الأرض من خيانة مدبلجة بأسلحة موجهة لعقولنا قبل صدرونا، أسلحة تسعى إلى سلب إنسانيتها وتحريكنا بالريموت كنترول.. فالعالم متخاذل والفصائل المشاركة في الصراع متحاربة.. مع أن الهدف واحد والعدو واحد.
الذي لا أفهم بعد كل ذلك كيف لا يعتريني إحساس متناقض بين الوعي واللاوعي من عالم اتفق وسيتفق -والله أعلم - على ترك المجازر تدار على مدار الساعة دون رادع من خوف أو ضمير، كيف لنا أن نفهم أن العالم خذلنا وسيبقى متمسكا بمنهجية من التسويف، سعيدا بفرقة أهل سورية ودمائهم المسفوكة وجثثهم التي كست أرض الشام.
ثم ما هي ردة فعل العالم وهو يشاهد الصور الموجعة لجثث المعتقلين في سجون النظام السوري التي تظهر كما صرح "محمد صبرة" مستشار الحكومة السورية المؤقت كيف ترك ذاك السفاك المعتقلين "لمدة ستين يوماً دون طعام أو شراب مما أدى إلى وصول وزن المعتقل إلى أقل من 20 في المئة من وزنه السابق وهذا امتهان لكرامة الإنسان أولاً وقتل ممهنج ثانياً." لقد طالب "صبرة" المجتمع الدولي بـ"التدخل لوقف جرائم الإبادة التي يرتكبها نظام الأسد. "وبين صبرة أن هذه الصور "تفضح جرائم النظام الدموي الذي استخدم سلاح التجويع ضد المناطق المحاصرة من جهة وضد المعتقلين في سجونه من جهة أخرى،" مبينا ارتكاب النظام "جرائم حرب من الدرجة الأولى، وهذه الجرائم تتعارض مع قانون العقوبات السوري الذي يمنع التعذيب وحجز حرية المدنيين ومنعهم من الطعام، في جريمة قتل متعمد".
أحمد الله أن "محمد صبره" ما زال مؤمنا بالمجتمع الدولي وعدالته وإنسانيته، مؤمنا أن حواسه الخمس ما زالت تعمل، مؤمنا أن هذا المجتمع لم يصب بالطرش ولا بالعمى، وإن كنت أشك في أن مجتمعا كهذا يملك قدر أنملة من ذلك كله، فقد رفض حسم الموقف ضد النظام الذي أشك أنه يعترف بالقانون الإلهي، ليظن أنه يعترف بالقانون الدولي، هذا المجتمع الدولي ترك هذا الصراع ليتضخم بشكل فاق التصور والمعقول، فهو يجد في الاجتماعات والكلام المنمق المعد مسبقا ملاذا آمنا لما قد يعتري ضمير العالم من شرخ، المجتمع الدولي امتهن ترتيب المقاعد والطاولات، وعقد مؤتمرات صحفية، فهذا النظام الإرهابي يدرك تماما أن المجتمع الدولي لن يردعه وأنه سيكتفي بالكلام ثم الكلام ، وأنه خصص أفرادا لإعداد كلام يدغدغ المشاعر ليس إلا..
ليتني أكون مخطئة فيما ذهبت إليه، وليت العالم يتحرك بإيجابية في سبيل إنهاء ما نراه على مدار الساعة من جرائم ضد الإنسانية، والله الهادي إلى سواء السبيل.