إن أحجية الوجود القَبْلِي للبيضة أم الدجاجة شغلت حيزا جدليا في الفلسفة قديمها وحديثها، وكذلك الإجابة عنها لا تمثل إلا فرضيات أو استنتاجات مسبقة لا يدعمها ولا يقوضها المنطق والعلم، وتعليمنا بشقيه ما زال يعيش تلك "الأحجية" بأيهما الحلقة "الأضعف" في تدني مخرجات تعليمنا؟ فالجامعات السعودية تشكو مخرجات ومستوى طلاب التعليم العام، وأنهم يمثلون ضعفا يعيق مخرجاتهم، ويرون في نتائج اختبارات التحصيل والقدرات لطلاب المرحلة الثانوية كل عام ما يثبت رؤيتهم، وبالتالي يجدون أنهم مطالبون بعمل وجهود خارقة لإعادة تأهيل ورفع مستوى "تعلم" الطالب ليتدرج لمستويات وأنظمة التعليم العالي؛ لمواكبة الرؤية المستقبلية للتعليم قبل الجامعي، التي تنبع من إيمان عميق بأن تحقيق أهداف التعليم في هذه المرحلة يعد استثمارا حقيقيا وطريقا بنّاءً نحو المستقبل.
ثم يأتي دور "التعليم العام" ليلقي ذرائعه وأعباءه بثقل على الجامعات ومخرجاتها، بدءا من قناعة ضعف تأهيل المعلمين والتربويين الخريجين بصفة عامة، مرورا بقناعة عدم استعداد جامعاتنا وبرامجها ومناهجها ومقرراتها لإنجاز المهام المنوطة بها، التي تدير بها عجلة التعليم، وتأهيل كوادر قادرة على استيعاب هذا العصر وظروفه ومواكبته لسوق واحتياجات العمل؛ ويرون كذلك في نتائج اختبار الكفاءات الأساسية للمعلمين كل عام ما يثبت حجتهم.
وانطلاقا وبنظرة داخلية في بيت التعليم العام نجد الشماعة ـ كذلك ـ تدور متبادلة ومتشعبة بين كل مرحلة تعليمية وأخرى، فالمرحلة الثانوية بإدارتها ومعلميها ومقرراتها تشكو مخرجات المرحلة المتوسطة التي تنتقل هي أيضا بدور الاستلام بإلقاء اللوم على مخرجات المرحلة الابتدائية، لتنتج كل مرحلة عيوب الأخرى والمحصلة النهائية نجد أن الجامعة والمدرسة يلتقيان بالتوازي وبنقطة تشابك أصابع الاتهام نحو مخرجات المؤسسة التعليمية بأسرها!.
دائرة المبرر ثقافة نعيشها في كل مجالات الحياة، ولكن ما أصعب أن ندفع ثمنها وأجيالنا في مجال التعليم، مما يجعلنا نرى أن وقت "توأمة" التعليم العام والعالي ـ وليس دمجهما ـ قد حان الآن وجعله شراكة لتحسين دافعية التعلم ونتائجه بدعم متبادل إيجابي، وبروح فريق عمل واحد بين الوزارتين، لخلق بيئة تعاونية تحسن إنتاجية الطلاب والمعلمين والعاملين بعلاقة شفافة يشارك بها الجميع.
فالتعليم العالي لديه القدرة البحثية والكفاءات المتميزة لإجراء دراسات لاستشراف مخرجات التعليم العام؛ كما أن وجود كليات التربية يسهم في تفعيل "البحث العلمي" الذي أصبح حاجة ملحة، ومطلبا مهما لعمل الوزارتين معا في ظل مشاريع "التطوير" التي تتجه الآن "تصحيحا" سريعا في عصرٍ نراه "ذهبيا" بقيادات الوزارتين، لنأمل أن ينتج مبادرة لوزارة التربية والتعليم للتنسيق المشترك مع وزارة التعليم العالي عبر كليات التربية في الجامعات السعودية؛ لتأمين حاجة وخطط "سوق العمل" التربوي كخطة استرتيجية قادمة، بناء على "التخصصات" المطلوبة كما وكيفا، كما لو يتم تزويد الجامعات السعودية بشكل دوري بالمناهج والمقررات الجديدة وخطط التطوير في التعليم العام لتتم مباشرة وتنسيقا لمراجعة مناهج وخطط كليات التربية نفسها حتى تتوافق وتسير المخرجات في اتجاه واحد، إضافة إلى ما يستجد من لوائح وأنظمة تحتاج إلى احتياجات تدريبية وتطويرية للتربويين بفئاتهم.. والمحصلة عمل مؤسسي تربوي مستقبلي يقوم على الشراكة لخدمة مشروع "الطالب" في التربية والتعليم، و"المعلم" المتدرب المؤهل في التعليم العالي مع تجويد لمخرجات التعليم.
يقول قائد حركات التعليم في أوروبا جون هنريك: "لا يمكن تحقيق التآلف والانسجام بالوحدة، ولكن الوحدة يجب أن تتحقق بالتآلف والانسجام"، ومنه إلى البيضة والدجاجة وأي الوزارتين هي الحلقة الأضعف في مخرجات التعليم، فجواب ذلك لا يهمنا، بقدر أننا نستطيع الاستفادة من وجودهما وتوأمة العلاقة بينهما، فتعليمنا اليوم به أطياف واسعة وكفاءات متميزة، وفيه جامعات ومدارس متزايدة في ظل مسيرة تنمية حديثة، ولكنها تحتاج إلى تظافر جهود ورؤى استراتيجية نحو مستقبل وطن وأمة.