في علم الإدارة، هناك مدخلان أو نوعان من التنظيمات الإدارية، الأول يطلق عليه "التنظيم الموجه بالنظام" ويعتمد على "وجود توزيع واضح للأدوار في شكل صلاحيات ومسؤوليات محددة لكل وظيفة، أما المدخل الثاني فيطلق عليه "التنظيم الموجه بالشخص"، والذي يعني تركز الصلاحيات والسلطات بيد المدير أو الرئيس الذي يمسك بكل الخيوط التي يُحرّك من خلالها الموظفين والموارد داخل التنظيم أو الجهة.

وللأسف فإن النوع الثاني هو السائد في بعض الجهات الحكومية، التي أصبحت بمثابة منازل خاصة لبعض المديرين والرؤساء، الذين يتربعون على العرش التنظيمي للجهة، بانفرادهم في اتخاذ القرارات والتحكم في مصائر الموظفين واضطهادهم.

ففي الوقت الذي يعيش فيه المجتمع تغيرات وتطورات حديثة متسارعة في جميع نواحي الحياة وما رافق هذا التغير من تطور في وسائل التقنية والمعرفة والفكر، انعكست على طبيعة الأنشطة الحكومية وتعقد أعمالها، فما زالت هناك فئة أو شريحة من المديرين أو الرؤساء يسيرون عكس التيار معتقدين أن جهاتهم ومنظماتهم مازالت تعيش في الماضي.

ومن سمات هؤلاء، إضفاء هالة من التفخيم على أنفسهم سواء في مظهرهم أو مشيتهم وعلاقاتهم مع الآخرين، فيتمسكون بمظاهر الهيبة في سكناتهم وتحركاتهم ومهاراتهم الإدارية تتمثل فقط في تكريس جل وقتهم في مراقبة الموظفين وضبط أوقات الحضور والانصراف، وتوقيع المعاملات اليومية والهامشية، ومعاقبة المخطئين، وتوجيه خطابات لفت النظر إليهم، وإجراء التحقيق معهم، والتدخل في صغائر الأمور والاهتمام بالتفاصيل، مع إظهار الشدة والحزم مع الموظفين، ليوهموهم بأنهم ما زالوا يمسكون بزمام الأمور، وما عليهم إلا أن ينفذوا ويطيعوا الأوامر دون نقاش أو اعتراض وإلا تعرضوا للمساءلة والتأديب، وأما مساءل تحقيق الأهداف ورسم السياسات ووضع الخطط وتحقيق الجودة فليست من أولوياتهم فمكانها في الكتب والدراسات الجامعية.

فنجدهم على سبيل المثال يحرصون كل الحرص على إصدار التعليمات والتوجيهات التي تلزم الموظفين بالانضباط في الحضور والانصراف، بينما هم أبعد الناس عن الانضباط والحرص، فلا يأتون إلى مكاتبهم إلا في ساعات متأخرة بحجة أنهم كانوا في اجتماع أو في لجنة، أو أنهم ينصرفون في وقت متأخر مع وجود (خارج دوام) مفتوح على مدار السنة!.

كما قد نجدهم أيضاً يشددون على تقليل أيام الانتداب، والقيام بواجب العمل خير قيام، وقصرها على الموظفين المتميزين (المطيعين)، مع أن كل همهم أن يتصيدوا أي فرصة للانتداب لحضور المؤتمرات والندوات، وأن يستحوذوا على كل الفرص المتاحة، بحيث لا يبقى إلا القليل للموظفين ليتفضلوا به عليهم، وبالتالي فإن الانضباط والاستقامة ليسا إلا مظهرين شكليين.

وقد يتشدق البعض بالأمانة، والحرص والمحافظة على المال العام، ومع ذلك ربما منهم من يستثمر جزءاً من أموال الجهة لحسابه الخاص، في شراء أو بيع العقارات على سبيل المثال، وإنشاء علاقات مع الشركات التي تتعامل معها الجهة لأجل مصلحة خاصة.

وأما تقارير الإنجاز، فيحرصون عل تضخيمها وتهويلها عن طريق التلاعب بالإحصائيات، والدعاية للأشخاص والكلمات الرنانة مع إخفاء السلبيات قدر الإمكان، ومن يكشف هذه السلبيات أو يخالفهم الرأي، تبدأ مرحلة إعداد المذكرات ومحاضر التحقيقات، لاتهامهم والإيقاع بهم تمهيداً للتخلص منهم ومن ثم تغطية فشلهم وخطاياهم.

ومن الوسائل والطرق التي يسلكونها في التضييق على الآخرين، اختراق ثغرات الأنظمة واللوائح والالتفاف عليها، ومن ذلك على سبيل المثال: استغلال نصوص المواد التي تتضمن صياغة عبارات الجواز (يجوز)، مثل عبارة "يجوز للرئيس المباشر" أو عبارة "وللرئيس المباشر الحق في تكليف الموظف..."، وهكذا.

لنأخذ على سبيل المثال؛ مسألة تقويم الأداء الوظيفي، نجد أن المادة 36/7 من اللائحة الصادرة عن وزارة الخدمة المدنية تنص على أنه "يعد تقويم الأداء الوظيفي من قبل الرئيس المباشر للموظف ويعتمد من قبل رئيسه ولمعتمد التقويم أن يعدل فيه بما يراه ملائماً"، وبناءً على هذه المادة هناك نموذج مخصص يتضمن معايير عامة خاضعة للتقدير الشخصي لمعد التقويم، وعلى هذا الأساس يتم تقويم أداء الموظف غير المطيع والمخالف للرأي من وجهة النظر الشخصية للمدير أو الرئيس لا من وجهة نظر العمل، لتصفية الحسابات معه.

وإذا أراد الموظف التظلم بسبب تقويم أدائه، فإن المدير أو الرئيس يعمل على سد قنوات الاتصالات الإدارية، والتوجيه بعدم استلام شكواه بالطرق الرسمية، وقد يتم استخدام نفس الأسلوب في عدم قبول إجازات الموظف سواء كانت اعتيادية أو مرضية أو اضطرارية.

هذا هو حال الإدارة التقليدية في بعض الجهات الحكومية للأسف الشديد، والتي أصبحت عاجزة عن القيام بدورها القيادي، وحل المشاكل المعقدة التي تواجهها وتحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها في ظل مراحل التغيير والتطوير، فترتب على ذلك ظهور كوادر إدارية غير مؤهلة، وقيادات إدارية خائفة ومترددة في تحمل المسؤولية، وعدم الإحساس بالاطمئنان النفسي لدى الموظفين.

وهذه الإدارة قد عفا عليها الزمن، ولن تستمر مهما حرص أصحابها في حماية مناصبهم وذواتهم، فتقنية المعلومات والتكنولوجيا ما عاد بإمكان المدير أو الرئيس الإداري التقليدي أن يستوعب مخرجاتها، وما عاد يستوعب أيضاً كيفية التعامل مع الموظفين من الجيل الجديد الذي يحمل أفكاراً ومعرفة مختلفة، والإدارة الحديثة اليوم تطرح شعار التجديد والتطوير، فلا مكان للمديرين أو الرؤساء التقليدين الذين يسعون إلى بقاء الأمور وثباتها على ما هي عليه من جمود وروتين.

وبهذا الصدد يقول أحد علماء الإدارة: "حين يفشل المديرون في فهم دورهم في التغيير والتكييف للضغوط والمطالب المتجددة، فإنهم يوصلون منظماتهم إلى الهاوية مثلهم كربان السفينة الذي يفشل في توجيه أشرعة سفينته تبعاً لحركة الرياح فيتسبب في غرقها".. فمن ينقذ السفينة وينقذ طاقمها قبل الغرق الوشيك؟