نتحدث عن الماضي بقرف وتقزز.. نحس به قبرا تجثو فيه تطلعاتنا في الحاضر وقيدا يعوق حركتنا إلى المستقبل.
نكره أن يكون الماضي كتابا تكتظ بثاراته حقائبنا أو مدادا يملأ محابرنا أو وثيقة نتداولها في مؤتمراتنا.
وتحركنا دوافع موضوعية للنفور من الماضي كل الماضي وكأننا على خصومة مع التاريخ أو لكأن التاريخ نفسه ليست لديه مدونات أخرى غير أشكال الوصاية بأطوارها المتخلفة وتعبيراتها الانتهازية المكتنزة في غور الاستبداد السلالي والتداين السياسي.
نزدري الماضي على إطلاقه؛ لأننا لا نعاين من تمثلاته الحياتية وأنماطه السلوكية شيئا مختلفا عن المثل الفكاهي لمتجر كبير يحمل لوحة عريضة كتب عليها "السلام للتجارة والاستيراد لصاحبه الحسين عبدالمؤمن العاقل"، وفي الحقيقة فإن جميع السلع المعروضة لديه لا تتجاوز السموم بأصنافها المختلفة والأسلحة الرشاشة بأنواعها المتعددة! أما صاحب المتجر فملاحق جنائيا ويعاني من لوثة عقلية مذ يفاعته وليس في حياته حسن ولا إيمان ولا عقل!
هكذا يبدو الماضي بالنسبة لليمنيين، متجرا للسلام القاتل والشعب القتيل.
الحوثيون، السلفيون، الإخوان ولكل تفرعاته الأشد غيرة واستعدادا للموت!! والموت من أجل السلطة، وليس مهما متى وصلوا إليها أن يكون الحاكم عبدا كرأس زبيبة، أو أن تتقوس ظهور الخلق من التقرب إلى الخالق بتقبيل ـ العوام الذين هم نحن ـ حواف ابن الأكرمين؟
• هل صحيح أن الله خول أحدا قتل عباده بغير حق؟
• ولأن هؤلاء وأولئك لا يريدون الخروج من شرعية القبو، تغدو مشاعات التطرف مستقبلنا الموعود بهم أو منهم. فهل من وسيلة للإفلات الجماعي الذي يجعلنا معا ـ نحن وهؤلاء ـ على قلب هدف استراتيجي ثلاثي الأضلاع.. دولة المواطنة، وسيادة المعرفة، وسلطة القانون..
هل يظل الماضي قاحلا ورؤيتنا العدمية تختزله على إرث الاستبداد ومفاصلات السقيفة وزهو يوم حنين.
كيف تموت أميركا وإسرائيل ومعظم المتحلقين على الشعار انقطعوا عن مواصلة الدراسة في الصفوف الابتدائية وتفرغوا لقتال معاوية؟ بل كيف نقنع جماعة دماج بأن أهم منجزاتهم خلال ما يزيد عن 40 عاما إيقاظ النائم وتهيئة أسباب النزوح و"إطلاق السيوف الباترة" الذي لا يستثني أحدا من النبذ والتفسيق؟ كيف يعقل الإخوان نتائج ممارساتهم باستمراء المتاهة؟ وهل يدركون كلفة الدفاع المستميت عن حكومة لا نظير لها في الهزال قياسا بكل حكومات الرئيس السابق؟
بل كيف نقنع هذا الماضي وأطرافه الصراعية بأن لديهم ما يستحق الوقوف عليه، والإقناع به في إطار جدلية الاتصال والتواصل بين الأفكار والأزمنة والمجتمعات؟.
دعونا إلى التغيير فجاء التدمير، أردناه وطنا للجداول فسبقتنا المعاول، ضقنا من نظام صالح فهب الإخوان وذبحوا الناقة والتهموا الثورة على رؤوس الأشهاد..
أتحدث إلى الماضي باجتراراته القسرية، ومراياه الحاكمة، وليس سوى الضرورة ما يدعونا للتعاطي معه بوصفه مجمل أشغال الحاضر! أقصد الماضي القريب الذي يستعصي أن يكون تاريخا فحسب؟
اليمنيون يستطيعون التخفف من آثام هذا الماضي حال صيرورته إلى معضلات واضحة تتطلب الحل، أما حين يعاد إنتاجه على أكثر من شاكلة وإذ يفرض نفسه بقوة الأمر الواقع عبر جماعات السلاح ومراكز القوى الناعمة ومحميات الاستحواذ على مجمل الفرص الاقتصادية؛ فإن تحرير المجتمع من أغلاله يستوجب جهدا معرفيا وإنفاقا سخيا وخيالا خصبا وعقيدة نضالية تلقف ما يأفكون.
من الهوس اعتبار التاريخ حديقة خلفية يتوسلها الكائن البشري للتخلص من فضلاته.. كما أن الإفراط في الجدل حول تأثير الماضي القريب على حركة الحاضر وبالأخص من مفاصلها الدين والسياسة والاقتصاد؛ يتطلب مشروعا ثقافيا جامعا وإلا عد الأمر اختلافا مع فلسفة الحياة، إذ من فاحش القول اعتبار الماضي تهمة مطلقة، ولا التاريخ مجرد قصص وتهيؤات نتسلى بجمالياتها السردية، لكنهما نتاج مناشط إنسانية لم تكن حيواتنا لتستقر على صورتها الراهنة سلبا أو إيجابا دون تاريخ أو بمعزل عن ماض.
على هذا النحو تذهب بنا طروحات وزير التعليم السابق الدكتور صالح باصرة، المتلفزة إلى الشغف بمجاهدات اليمنيين على تقديم نموذج حضاري أنجز تحدي الخصب في علاقة الإنسان بالأرض، واستدعى إعجاز العقل في الصناعات اليدوية والإعمار، غير أن فئرانا ضخمة أنشبت نابها في أرومته لتتكالب عليه عزوات الطامعين، وتتجاذبه صراعات الممالك والأذواء والعشائر، بيد أن مفارقات الأسى تنزع بنا من قمة الانتشاء بأهم أسفار الحضارات العربية والإسلامية إلى وهدة الانكسار، إذ ليس المهم وجود قارئ موسوعي للتاريخ، ولكن مدى قدرة متخذ القرار على استدعاء هذا القارئ لأعمال استخلاصاته المنهجية في مواجهة تعقيدات الواقع، سيما متى التقت دروس التاريخ مع الملكات الكفؤة، وصار دورهما موضع إرادة سياسية ذات رؤية بعيدة تعبئ الصفوف وتحشد الموارد في سبيل أهداف استراتيجية عمادها دولة المواطنة وسيادة المعرفة وسلطة القانون.
ولو أن مؤتمر الحوار حرك بوصلة التاريخ صوب مجسم كهذا ما بقت الغمة عالقة تدمي القلب وتقض المضجع وتنكئ جراح الضمائر المسكونة بعشق الوطن.
الرئيس هادي أنهى مؤتمر الحوار بوعد التغيير، ودعا القوى السياسية إلى مؤازرته فيما يعتزم القيام به من قرارات.. ولا شك أن لدعوته دلالتها المهمة؛ لأن وعدا كهذا ليس مجرد نزهة في أدغال التاريخ ولا إطلالة عابرة على تعقيدات الحاضر، لكنه أشق تحديات اليمن في أدق حقب التاريخ، ويقتضي الواجب التفاف الشعب حول رجل قد يكون المنقذ فعلا، وما أحوج البلاد إلى طوق نجاة وإلا كان القادم خلاصة مساوئ الماضي بشقيه القريب والبعيد.