اقترع المصريون على الدستور الجديد، وجاءت النتائج كاسحة، بنعم لصالحه، بنسبة عالية تجاوزت الـ98%. وينتظر صدور قرارات رئاسية تحدد موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، في غضون الأيام القليلة القادمة؛ لتستكمل بذلك بناء مؤسسات الدولة، في مصر المحروسة.

ولأسباب عدة، سيكون الثقل الأكبر في قيادة مصر، بالمرحلة القادمة، منوطا بالمؤسسة العسكرية. وذلك ليس رجما بالغيب. فكل المؤشرات تشي بأن الرئيس القادم لمصر سيكون الفريق عبدالفتاح السيسي، الذي ينتمي إلى المؤسسة العسكرية، التي تتكفل بالدفاع عن مصر، وحماية أمنها القومي. وقيادتها قوية ومتجانسة. في حين لا توجد أية مؤسسة أو حزب سياسي، توازي في نفوذها وقوة تنظيمها المؤسسة العسكرية، بعد حل جماعة الإخوان المسلمين، واعتبار تنظيمهم حركة إرهابية يجرم الانتماء لها. والمنطقي بناء على هذه القراءة، أن تتم الانتخابات الرئاسية أولا، ثم يصار إلى الانتخابات النيابية؛ لأن الثقل الرئيسي في المرحلة القادمة سيكون في كفتها.

المؤسسة التشريعية، ستكون في تشكيلها انعكاسا، لتوازنات القوى السياسية التي تنشط على الأرض. وقراءة الأحزاب السياسية المصرية، تؤكد أن ليس بينها من بإمكانه حصد غالبية المقاعد البرلمانية، في الانتخابات القادمة. بمعنى أن الذين سيصلون إلى البرلمان، سيمثلون توجهات سياسية مختلفة، وسوف يصل إلى العضوية عدد غير قليل من المستقلين. وسيكون تشكيل الحكومة مستحيلا، ما لم تتوافق بعض الكتل على تشكيل حكومة وحدة وطنية، ستكون قراراتها فضفاضة ورخوة، وممثلة للتوافق الوطني، وليس على أساس برنامج حزب أي من الكتل الممثلة في البرلمان.

وعلى هذا الأساس، لن تكون هناك قوة قادرة على قيادة المرحلة القادمة سوى القوة الأكثر تماسكا وتجانسا وتنظيما، وهي المؤسسة العسكرية، ممثلة بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، التي ستقف خلف الفريق السيسي، وتقدم له مختلف أشكال الدعم.

وسيواجه الرئيس القادم مهمات كثيفة ومركبة وصعبة. فهناك هياكل الدولة التي نخرها السوس، وأصيبت بالشيخوخة. وقد تضررت هذه الهياكل كثيرا في السنوات الأخيرة، بفعل التغيرات السريعة المتكررة، التي مرت بها البلاد. فقد سقطت سلطتان سياسيتان في السنوات الثلاثة الماضية: سلطة الرئيس مبارك، وسلطة جماعة الإخوان. ومع سقوط كل سلطة، تستبدل كوادرها الرئيسة بكوادر جديدة. وهذا يعني أن فراغا كبيرا حدث في أجهزة الدولة، ينبغي أن يعبأ بكفاءات قادرة على النهوض بمصر، وأن يكون الاختيار مبنيا على الندية والقدرة، والتضحية في سبيل الوطن، وليس على الوجاهات والمحسوبية والانتماء الحزبي.

هناك أيضا، عبء القضاء على الإرهاب المستحكم في سيناء، ومعالجة حالة الانفلات الأمني، وارتفاع معدلات ارتكاب الجريمة، التي استفحلت في السنوات الثلاث الماضية، وانتشار العشوائيات، وازدياد مستويات البطالة. وجل هذه الظواهر هي انعكاس للأزمة الاقتصادية التي تعاني منها أرض الكنانة. وشرط التعامل معها لن يكون أمنيا محضا، إذ لا بد من معالجة هذه المشاكل من جذورها.

مقابلة استحقاقات الناس، شرط أساس لمعالجة المشاكل، لكن ذلك رهن لقدرة الدولة على تحقيق ذلك. وسيكون على القيادة الجديدة، الموازنة الدقيقة بين النهوض بمصر، من خلال تطوير حقلي الصناعة والزراعة، وصولا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، ومعالجة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة من جهة، وبين مقابلة استحقاقات الناس من جهة أخرى.

ولا شك أن جماعة الإخوان المسلمين، ستكون لمرحلة طويلة، عقبة كأداء لمنع تطور مصر. ولن تسلم بالسهولة بالقرارات التي اتخذتها القيادة السياسية، بتجريم نشاطها ومعاقبة من ينتمي إليها. وسوف تواصل التظاهرات والاحتجاجات وأعمال التخريب، وتنسق مع القوى المتطرفة التي تنشط في سيناء.

لقد تمكنت هذه الجماعة من التغلغل في كل مفاصل الدولة، بالموروث العنفي الذي عرف عنها، طيلة تاريخها، منذ تأسست في نهاية العشرينات من القرن المنصرم. وقد أكدت تجربة الأشهر الستة التي مضت، بعد الإطاحة بالرئيس مرسي، أنها سوف تواصل تهديد الأمن، ولن تستسلم بسهولة.

إن ذلك يفرض على الدولة العمل سريعا، من أجل تجريد جماعة الإخوان، من أي حاضن اجتماعي. ولن يكون ذلك ممكنا من غير التصدي للقواعد الفكرية، التي تستند عليها. يضاف إلى ذلك، أن الجماعة راكمت خبرات سياسية، وتمكنت من التغلغل، في الشأن الاقتصادي. وتحت شعار الأنشطة الدعوية، هيمنت على الكثير من الجمعيات الخيرية، واستغلت ذلك بذكاء؛ من أجل خدمة أجنداتها السياسية.

ولن يكون العزل تاما وشاملا لهذه الجماعة، إلا بإشراف الدولة على جميع أنشطتها، في أقل تقدير. وهي مهمة صعبة في كل الأحوال. وينبغي التعامل مع الجماعة، إلى ما لا نهاية، باعتبارها حركة سياسية، ليس لها شأن بالأمور الدعوية. فقد اختارت هي بنفسها ذلك، حين كرست أنشطتها واستنفذت طاقاتها من أجل الوصول إلى السلطة.

وإذا ما انتقلنا من هذه المصاعب، إلى علاقة مصر، بعمقها الأفريقي. فإن هناك تحديات حقيقية تهدد الأمن المائي لمصر. فقد شاء طالع مصر، أن تأتيها مياهها من خارج حدودها، شأنها في ذلك شأن البلاد العربية التي تمر بها الأنهار الكبرى الثلاثة: النيل والفرات ودجلة.

مشاريع التفتيت التي تشهدها الدول المشاطئة للنيل، وبشكل خاص ما يجري في إثيوبيا وجنوب السودان، سيكون له تأثير مباشر على الأمن المائي المصري. يضاف إلى ذلك، السدود الضخمة التي أعلنت إثيوبيا عن عزمها على بنائها، ستمثل تهديدا حقيقيا لمصر، إن لم يتم التنسيق مع القيادة الجديدة حولها، بما يضمن استمرار تدفق مياه النيل، بذات الكثافة والطاقة المعتادة. وسيكون على القيادة الجديدة أن تعمل على انسيابية العلاقات السياسية والاقتصادية، والتنسيق مع هذه الدول، لتحمي أمنها المائي، ولتمنع ما يعكره.

هذا جزء يسير من مصاعب وقضايا شائكة، سيكون على القيادة الجديدة التصدي لها ومعالجة أثارها. حمى الله مصر وشعبها وقيادتها من أي مكروه، ومكنها على تجاوز أزماتها، لتسهم، مع شقيقاتها العربيات، كما هي عادتها دائما في قيادة المشروع النهضوي العربي نحو بر الأمان.