يهدف هذا المقال لفحص شكلين من أشكال التواصل الإنساني: الحوار والجدل. هاتان الصورتان ليستا حكرا على المجال المعرفي أو التواصل الثقافي بل تتحققان كذلك على مستوى التواصل الإنساني المباشر في التجربة الحياتية الشخصية. في البداية أعتقد أنه من المهم الإشارة إلى ما أعنيه بالحوار والجدل باعتبار أن هذه المعاني محمّلة بحمولات فكرية واجتماعية هائلة قد تحجب النظر من البداية وتجعل سؤال العلاقة بين الحوار والجدل محسوما سلفا. مؤخرا اكتسب "الحوار" سمعة جيدة عند المتابعين خصوصا بعد أن تم تبنيه من خطابات متعددة كحل لأزمات فكرية واجتماعية معاصرة. الحوار هنا أصبح خطابا رسميا وثقافيا وتربويا وجزءا من المعتاد والمتعارف عليه على الأقل ظاهريا وسطحيا. في المقابل الجدل يحمل سمعة سلبية قد تحجب فهمه من الوهلة الأولى. الجدل يفهم كثيرا على أنه حديث بنوايا غير صادقة ولن يؤدي في النهاية سوى للمزيد من الخلاف والفرقة. هذا ليس الجدل الذي في ذهني هنا. ما أعنيه بالجدل هو أسلوب الحجاج المعرفي. بمعنى أنه الخطاب الذي يقوم على تنافس وصراع الحجج والبراهين بين وجهات نظر مختلفة. هذا الأسلوب قديم قدم المعرفة البشرية وقام عليه كثير من المعارف العقلية في الفلسفة والعلوم والإنسانيات.
ما أسعى له هنا هو التفكير في الحوار والجدل في أحسن أحوالهما بحثا عن فهمهما بوصفهما أولا مناهج للتفكير وثانيا بوصفهما شكلين من أشكال التواصل الإنساني. أقصد بالمبحث الأول فحص الحوار والجدل باعتبارهما طرقا للتفكير والفهم والتفسير والقول والحكم. وأقصد بالمبحث الثاني فحص الحوار والجدل باعتبارهما شكلين من أشكال الوجود الإنساني: الوجود في العالم والوجود مع وللآخرين. هذه المقالة ستكون مخصصة للمبحث الأول أي الحوار والجدل كآليات ومناهج للتفكير.
في البداية لا بد أن نلاحظ علامة اشتراك قوية بين الحوار والجدل وهي فرضية التفكير من خلال وجود الآخرين. المحاور والمجادل يتفقان من البداية على أن ممارسة التعرّف والفهم تتطلب التفكير بإحضار الآخرين. وجود الآخر هنا ضرورة لوجود الذات. المحاور والمجادل يبحثان، ربما لأهداف مختلفة، عن طرف آخر يفكرون داخل علاقة معه. هذه العلاقة قد تكون التفكير معه أو التفكير ضده أو التفكير من خلاله. المهم أن الآخر حاضر وأساسي في الصورة. الموقف من الآخر هو برأيي نقطة التقاء وانفصال الحوار والجدل. الالتقاء يكمن في اعتماد كل من التفكير الحواري والجدل على وجود آخر يتم إثبات الذات من خلاله. نقطة الانفصال في المقابل تتحدد في الموقف من هذا الآخر. بمعنى أن حضور الآخر قد يكون لغرض التواصل معه وقد يكون بغرض نفيه وحجبه.
يمكن البدء في فهم هذا الفرق في التفكير مع الآخر من خلال تمييز بين الأدوار داخل التواصل. في الجدل هناك تمييز واضح بين تفكير الذات وتفكير الآخر. أو بين ما يقوم به كل طرف من أطراف الجدل. أنا وأنت حالات حادة هنا والحفاظ على روح المجادلة يتأسس باستمرار على تمييز مصادر الأفكار. في الحوار الفكرة تولد لطرفي الحوار بمعنى أنه داخل الحوار يتم تبادل الأدوار في تبني الأفكار. داخل الحوار تضعف الحاجة للحفاظ على تمايز مصادر الأفكار وتندفع العلاقة باتجاه تبادل الأدوار وتبادل الأفكار. الفكرة المولودة داخل الحوار هي فكرة المتحاورين جميعا ولا يتطلب السياق، كما هو في الجدل، تمييز الأفكار والحفاظ على حالة التناظر والتقابل.
كذلك الجدل عملية تتحرك تحت هدف وغاية محددة وهي حلّ القضية موضع الجدل. بمعنى أن جدل "س" و"ص" يسعى لتحقيق هدف محدد وهو حل إشكال معيّن تم التوافق عليه في البداية. خروج الجدل عن هذه الغاية هو إعلان عن فشله وانحرافه عن الطريق الذي يفترض أن يسير في داخله. في المقابل نجد أن الحوار عملية مفتوحة وقابلة لتجديد أهدافها وغاياتها باستمرار. حين يتحاور "س" و"ص" فإنهما أمام احتمالات مفتوحة وربما كان تمدد الحوار وانتقاله إلى موضوعات وقضايا مختلفة علامة على نجاح وتحقق القيمة الأساسية للحوار وهو التفكير الحر مع الآخرين.
بهذا المعنى يمكن القول إن الجدل هو تفكير إجرائي بينما الحوار تفكير غائي. هذا يعني أن الجدل عملية أقرب للتقنية تقوم على فعالية عالية المستوى من فحص الأفكار وإعمال العقل النقدي والحجاجي فيها. النقد والاختلاف هو المحرك الجوهري للعملية الجدلية. الجدل كإجراء لا يعني عدم وجود هدف داخله بقدر ما يعني أن هذا الهدف داخلي يستعمل كطاقة توليدية للمزيد من النقد ومقابلة الأفكار. بمجرد نهاية هذه العملية ينتهي الجدل. في المقابل الحوار تفكير غائي بمعنى أن الحوار باعتباره يتحرك في اتجاه فهم الذات وفهم الآخرين وفهم الوجود فهو بهذا المعنى عملية مستمرة وواسعة من الصعب حصرها في إجراء محدد. لهذا يمكن فهم الجدل داخل عملية حوار أكبر. بمعنى أن يكون الجدل هو أحد وسائل الحوار على ألاّ يستغرق العملية كلها ويبقى مجرد إجراء داخل عملية حوار أوسع وأكبر.
الجدل يمكن أن يُفهم هنا أيضا على أنه طاقة ضرورية للحوار. بمعنى أن الجدل هو الطاقة التي تحافظ على الاختلاف داخل الحوار. ذكرنا في المقالات السابقة أن الحوار يعطّل بمجرد افتقاد المتحاورين لما يميّزهم عن بعض أو بالأحرى افتقادهم لاختلافهم. في المقابل التفكير الحواري هو من يفترض أن يقود التواصل لا الجدل. التفكير التواصلي يحتاج إلى منهجية على سعة ومرونة وانفتاح الحوار. الجدل عملية محدودة مقارنة بمثل هذه الأهداف. بناء على هذا يمكن الزعم بأن الحوار يتضمن في داخله بالضرورة جدلا ولكن الجدل لا يؤدي بالضرورة إلى حوار.