واستكمالا لما كتبت بالأمس عن المبالغة والتهويل في الدور العربي في المشاركة في المنجز المادي الكوني، سأبدأ بذكر حوار قصير بين زميل صديق وبين أستاذه في جامعة غربية، قال صاحبنا لأستاذه: نحن من اخترع الصفر وقدمه للعالم كقاعدة لعلوم الحساب والرياضيات. أجابه أستاذه ولكننا من الصفر الذي أهديتموه للإنسانية اخترعنا لها كل شيء من البنسلين إلى المصانع التي تصنع المصانع، يذكر صاحبنا أن دهشة هذا الحوار القصير قبل ربع قرن، كانت كقدح شرارة للصحوة واليقظة على الحقائق التي غلفت عقله وأغلقت دماغه لزمن طويل كان فيه مثل كل النخب العربية التي تتباهى بتزييف جمعي للوعي.
والقصة الأصغر قبل الأكبر، في هذه المعضلة أن العربي يقنع نفسه بشوارد القصص عن إنجازات بعض الأفراد عبر التاريخ في مساهماتهم في المنجز الإنساني. هو ينسى أولاً أن السواد الأعظم من هذه الأسماء لم تكن (دما) عربيا حتى وإن تركت عجمتها لتركب أسماء عربية أو معربة، هو ينسى ثانيا أن هذه الأسماء من تاريخنا التي شاركت بجهدها في المنجز الكوني، لم تنطلق من منظومات جمعية تعكس طفرة وشمولا تدلان على نهضة حضرية متكاملة. وبالمباشرة، كانوا أفرادا لا مؤسسات، كانوا اجتهادا فردانيا لا علاقة له بشبكة متصلة من المعرفة مثلما هو الحال الذي تغلبت فيه المؤسسة الغربية على العالم بهذه الآلية.
القصة الأكبر، أن العربي تعامل مع التاريخ من منظور مقدس ولم ينظر إليه كعلم إنساني يقبل المحاكاة والجدل. تحول الحديث مثلاً من الأندلس وقصور الحمراء إلى إرث ديني، ولهذا سيتهم كل من يقول إن الإرث المعماري الأندلسي لا علاقة له بالعرب من حيث الفكرة والبناء بالقدح في الموروث الإسلامي والتشكيك في الورق التاريخي الديني. تحول علم التاريخ إلى جزء من الخطاب الديني، وبالمباشرة تحولت حصة التاريخ إلى مقرر ديني. الأمة التي لا تسائل ماضيها بكل شفافية لن تصل لمستقبل.