على الرغم من العمر القصير للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، إلا أنها حاولت أن توجد لنفسها صوتاً مسموعاً في المجتمع، ومع ذلك هناك شكوك ومخاوف من أن هذه الهيئة ستكون ذات تقارير غير فعالة، ولا نتائج مترتبة على تقاريرها، من أهمها محاكمة ومعاقبة المخالفين ومجرمي الأموال العامة.
ولهذا السبب، انصبت أسئلة أعضاء مجلس الشورى والمواطنين نحو أهمية مساءلة ومحاسبة الفاسدين، وعن دور "نزاهة" في هذا المجال، وعن مصير قضايا الفساد التي كشفتها الهيئة، لتكون الإجابة بأن هناك تأخرا في "البت في قضايا الفساد، سواء أثناء التحقيق أو المحاكمة"، وذلك بسبب "اختلاط قضايا الفساد مع غيرها من القضايا أو المحاكمة"، وبناءً على ذلك، طالبت نزاهة بإنشاء محاكم متخصصة بقضايا الفساد وكذلك دوائر تحقيق خاصة لضمان عدم تعطيل القضايا.
وقد رفض بعض القضاة والمحامين فكرة المحاكم المتخصصة، حسبما نشرت إحدى الصحف المحلية، إذ يقول أحد القضاة إن "قضايا الفساد تكون بحسب التهمة، فبعض قضايا الفساد تكون عقوبتها أمام ديوان المظالم مثل الرشوة والتزوير وسوء استغلال السلطة وغيرها، وينعقد الاختصاص فيها لديوان المظالم، وهناك قضايا فساد تنظر في المحاكم العامة مثل قضايا غسل الأموال، كما أن قضايا الفساد كالغش والتدليس والنصب والاحتيال والاختلاس وغيرها فيها للمحكمة الجزئية، وبالتالي يتعذر أن تكون محكمة واحدة لغرض محاكمة الفساد".
كما يرى آخرون أن وجود محكمة واحدة متخصصة لجرائم الفساد يضعف من هيبة القضاء وسيفقد شيئاً من اعتباره، فيقول أحدهم بأن "قصر مفردة الفساد على الفساد المالي يخلق مجتمعاً جديداً لا يعتبر جرائم الإلحاد والفواحش فساداً"، وبالتالي فإن هذا الأمر سيؤدي إلى تداخل الاختصاصات وإرباك القضاء برمته، بالإضافة إلى خلق جهات قد تتجاوز عملية الضبط القضائي.
بالإضافة إلى ما سبق، نشرت "الوطن" قبل يومين، تقريراً مهماً حول "دعوات بتفعيل المدعي العام في قضايا فساد المشروعات"، وذلك "بهدف الحفاظ على المال العام وحماية مشاريع الدولة الخدمية المقدمة للمواطنين من الضرر"، وقد تضمن التقرير آراءً حول غياب وضعف دور الجهات الرقابية، والنظر في تكليف هيئة التحقيق والادعاء العام، أو ديوان المراقبة العامة بدور "المدعي العام" نيابة عن الدولة في محاكمة المتلاعبين بالمال العام والمتسببين في تعثر أو رداءة جودة المشاريع الحكومية، كما استعرض التقرير آليات رفع الدعوى القضائية والإشكاليات المصاحبة لها في الجهات المختصة.
ومما سبق، يتضح أن هناك إشكاليات تتعلق بالدعاوى القضائية ومحاكمة الفاسدين، بالإضافة إلى وجود ضبابية وغموض حول دور الجهات الرقابية في عمليات الضبط القضائي والإجراءات القانونية لمحاكمة المسؤولين عن قضايا الفساد.
ومهما اختلفت وجهات النظر حول هذا الموضوع، إلا أنها في النهاية تتفق على أهمية محاكمة الفاسدين وتطبيق العقوبات عليهم، ومطالبة "نزاهة" بإنشاء محاكم متخصصة في قضايا الفساد، هو مطلب في غاية الأهمية، ويتفق عليه الجميع أيضاً، حتى القضاة والمحامون بالرغم من اعتراضهم على الفكرة، فالاعتراض في الأساس ينصب على الارتباط التنظيمي للمحكمة، فهم لا يعترضون في الحقيقة على وجود دوائر مختصة بقضايا الفساد بشرط أن تكون ملحقة بالمحاكم الجزائية بمعنى أن تكون تحت إطار القضاء العام، وبالتالي يتفق الجميع على ضرورة وجود اختصاص في محاكمة جرائم الأموال العامة، والاختلاف هنا يتمثل فقط في التنظيم وليس في مضمون الفكرة، فوجود محكمة أو دائرة مختصة للأموال العامة مطلب ضروري، بالإضافة إلى وجود مختصين في القضاء المالي.
والمشكلة الحقيقية في رأيي موجودة في الجهات الرقابية نفسها متمثلة في وزارة المالية وديوان المراقبة العامة و"نزاهة" بخصوص رفع الدعوى القضائية.
فلو أخذنا أولاً وزارة المالية، فهي مسؤولة عن الرقابة المسبقة، وتختص أيضاً في النظر في بلاغات الغش والتحايل والتلاعب في المشاريع الحكومية، وإصدار عقوبات بمنع التعامل مع الشركات المتورطة في هذا الأمر، وذلك حسبما جاء في نظام المنافسات والمشتريات الحكومية، فإذا تم كشف حالة غش أو تلاعب في العقود الحكومية فقد تكون هناك جرائم مرتبطة بهذه الممارسات، فهل تشترك الوزارة في المسؤولية لأنها قامت بمراجعة العقود مسبقاً، وخاصةً فيما يتعلق بإجراءات الترسية؟ وهل تقوم الوزارة بإحالة مثل هذه القضايا إلى الادعاء العام؟ وهل هي ملزمة بذلك؟
أما بالنسبة لديوان المراقبة العامة و"نزاهة"، فكما هو معلوم ليس من صلاحياتهما الضبطية القضائية، فهي من صلاحية كل من هيئة الرقابة والتحقيق في المخالفات النظامية، وهيئة التحقيق والادعاء العام في الجرائم المالية كالرشوة والاختلاس والتزوير واللتان تمثلان "الادعاء العام" في هذا المجال، ودور الديوان ونزاهة يتمثل في إحالة القضايا المكتشفة من قبلهما إلى هذه الهيئات تمهيداً لرفع الدعوى القضائية في المحكمة الإدارية المختصة (ديوان المظالم).
وحتى تكتمل عملية الضبط القضائي فلا بد أن تكون الإجراءات المتخذة في عملية الكشف عن المخالفات المالية والإدارية كاملة من الناحية القانونية وقوة الإثبات وقد تحدثت في المقالة السابقة عن إشكالية الوثائق والأدلة التي تؤكد صحة المخالفات، وبالتالي قد يكون هناك عدم دقة في بعض المخالفات المكتشفة، وعدم اكتمال وشمول البيانات والمعلومات، الأمر الذي يؤدي إلى طول إجراءات البت في قضايا الفساد، بالإضافة إلى عدم وضوح الإجراءات الملزمة للإحالة إلى الادعاء العام، وكذلك الانتظار 30 يوماً لرد الجهات الحكومية ومطالبتها بإجراء التحقيق، الأمر الذي يؤدي إلى تقاعس هذه الجهات في النظر في القضايا أو رفضها وتجميدها وعدم متابعتها، فلا نتعجب إذن إذا عرفنا بأن قضايا الفساد لا يبت فيها أو لا تتم متابعتها أو أنها تحفظ أو أن يكون الطابع العام للأحكام الصادرة بالبراءة أو وقف التنفيذ.