المصريون تجاوزوا أولى خطواتهم الصعبة للاتجاه إلى الدولة المدنية ونجحوا فيها، حين نزلوا إلى الاستفتاء، في مشاهد مبهجة رأيناها جميعنا عبر وسائل الإعلام المختلفة، لكنها ما تزال أولى الخطوات وتنتظرهم خطوات لا تقل عنها صعوبة، أهمها بناء البرلمان المصري الذي أرى من الأهمية أن يكون قبل انتخاب الرئيس القادم، وبغض النظر عن نسبة التصويت التي ذهبت لصالح التأكيد على التغيير وهي النتيجة المتوقعة أصلا، فإن نزول أكثر من عشرين مليونا ليصوتوا بنعم أو لا للدستور المصري الجديد بما يزيد عن العدد في التصويت لدستور الإخوان عام 2012، يؤكد رغبة المصريين في التغيير، وهو الذي نزلوا لأجله إلى ميدان التحرير في 30 يونيو من العام الماضي، والذي عده "الإخوان" والمتعاطفون معهم انقلابا عسكريا، رغم أن الرئيس الموقت هو رئيس المحكمة الدستورية وليس السيسي الذي حصد شعبية مصرية أثرت على مكانة الرئيس عدلي منصور الهادئ في طباعه السياسية والتي تفرضها عليه هيبته القانونية، ولولا أن السيسي حمى مصر من التمزق السياسي والطائفي، ووقف مع رغبة الشعب ضد من أراد اختطاف مصر منهم لما نال هذه الشعبية.

إن المصريين بعد قضاء ما يقارب ثلاثة أعوام من الترهل الأمني والاقتصادي والاجتماعي الذي تفاقم في فترة "الإخوان" بسبب إقصاء من يختلف مع "الإخوان"، وتدخل المرشد في شؤون الدولة ومحاولتهم "أخونتها" وتفصيل دستور يتناسب مع "الحزب الإخواني"، وهو ما ارتكبه نظام مبارك والحزب الوطني سابقا، كان حتما على المصريين أن ينتفضوا ضد من يحاول هدم ألف عام من عمر الأزهر، وأكثر من خمسة آلاف عام من الحضارة التي قامت على التعددية الدينية والتنوع الثقافي والتعايش المجتمعي، فمصر التي لم تعرف يوما احترابا مذهبيا سنيا شيعيا عرفته في فترة مرسي، وليس هذا إلا نتيجة التجييش المذهبي من قبل "الإخوان"، والذي كان يُضخ في الشارع المصري لخدمة مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، فالإسرائيليون لن يشعروا بالأمان في المنطقة العربية إلا بعد سقوط مصر في احتراب طائفي ومذهبي يؤدي إلى تقسيمها، وقد سقطت قبلها العراق والآن سورية، ومعهما انهار جيشاهما، ألم يقل أول رئيس وزراء إسرائيلي يدعى ديفيد بن غوربون "إن عظمة إسرائيل ليست في قنبلتها الذريّة ولا ترسانتها المسلحة، ولكن في العمل على انهيار ثلاث دول هي مصر وسورية والعراق"! واللبيب يفهم جيدا أن "الإخوان" ما كانوا إلا وسيلة لهذا الانهيار الذي كان من الممكن أن يحصل في مصر، فهم لا يسعون إلى وحدة مصرية بقدر ما تكون لديهم دويلة مصرية تخصهم في كعكة "الشرق الأوسط الجديد"!

بصدق، إن من المهم ألا يلتفت المصريون إلى الماضي لينتقموا منه، فمصر التي يقارب عدد أهلها تسعين مليونا، يصعب جدا أن يختطفها حزب سياسي أو طائفة دينية من بقية الملايين، وهنا يكمن التحدي الخطر للرئيس المنتخب القادم، وما يهم الآن بعد كتابة الدستور، أن يخرج المصريون من نشوة العواطف ويعملوا على بناء المؤسسة البرلمانية وانتخاب أعضائها قبل انتخاب الرئيس، فهذه خطوة لا تقل أهمية عن كتابة الدستور، فهل المصريون فاعلون؟