لن أخوض في اللغو الفارغ حول نتائج وحجم المشاركة وشرعية الاستفتاء على الدستور المصري، فقد قتلت بحثا، بل سأكتفي برصد ظاهرة مشاركة السيدات الهائلة، حيث اصطففن في طوابير طويلة أمام اللجان انتظارا للحظة الاقتراع، ولم يقتصر الأمر على مجرد التصويت، بل عبّرت السيدات عن فرحتهن بما كفله "الدستور الجديد" لهن من حقوق غير مسبوقة في كافة دساتير مصر السابقة.
لهذا السبب وغيره لعبت المرأة المصرية دورا بالغ الأثر في حشد كافة أفراد أسرتها للتصويت لصالح الدستور، وظلت حشود المرأة باللجان منذ فتحها حتى غلق الصناديق، وكان ذلك بمثابة "عرس سياسي واجتماعي"، كما عكست فرحتها أيضا رفضا حاسما لحكم جماعة الإخوان الذي أقصى المرأة وهمشها وتعامل معها بمفهوم (نموذج الوعاء) لشهواته وإنجاب الأطفال وتكريس تبعيتها، رغم أكاذيب الجماعة التي كانت تتشدق بها بلغة إنشائية تنهار على محك الواقع أمام أول اختبار.
والحديث عن المرأة المصرية يقودنا لرحلة في الزمان، فأحدثك عن الملكة المصرية القديمة (حتشبسوت) التي واجهت أزمات خطيرة لحكمها من خلف ستار، وكما يقول علماء المصريات فإن الشعب كان يرفض أن تحكمه امرأة، فالملك طبقا للعرف ممثل لحورس (حاكم الأرض)، لذلك كانت دائما ترتدي ملابس الرجال، وأشاعت أنها ابنة (آمون) لإقناع الشعب بأحقيتها في الحكم، بينما كان ولي العهد الشرعي تحتمس الثالث ما زال صبيا، فحكمت حتشبسوت حتى يكبر، وحرصت أن يتلقى تربية عسكرية ليتمكن من إدارة مقاليد الحكم، وأعادت تنشيط حركة التجارة مع جيران مصر بعدما تدهورت بعهد تحتمس الثاني، وأنشأت معبدها الأسطوري بالأقصر، واتسم عهدها بالسلام والرفاهية.
وإذا كان التاريخ ذكر ملكات تربعن على عرش مصر، فهناك أخريات تربعن على قلوب ملوكهن، وهنا أحدثك عن زوجة أخناتون نفرتيتي (جميلة الجميلات) التي كانت شريكته لنشر عقيدة التوحيد التي دعا لها، وظهرت معه باحتفالات صورت خلالها وهي تحارب الأعداء، وعثر على صور لها بهيئة حربية تقود الجيش من على سطح سفينة، بينما زوجها الذي حكم مصر 18 عاما، لم يعثر له على رسوم في وضع قائد الجيش.
ونقفز للعصر العباسي لنقرأ رواية المقريزي التي قال فيها إن المأمون حضر لمصر بعدما اندلعت فيها الاحتجاجات وسخط على عيسى بن منصور، وكان على إمارة مصر، فأمر بحل لوائه ووبخه قائلاً: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك، حملتم الناس ما لا يطيقون، وكتمتني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد، ولما سار بقرى مصر كان يبني بكل قرية دكة يضرب عليها سرادقه والعساكر حوله، فمرّ بقرية يقال لها (طاء النمل) فلم يدخلها لحقارتها، فلما تجاوزها خرجت عجوز تسمى مارية القبطية صاحبة القرية، وهي تصيح، فظنها المأمون مستغيثة متظلمة فوقف، وكان لا يمشي إلا والتراجمة بين يديه، فذكروا له أن القبطية قالت: "يا أمير المؤمنين نزلت بكل ضيعة وتجاوزت ضيعتي، والقبط تعيرني بذلك، وأسألك الحلول بضيعتي ليكون لي الشرف ولا تشمت الأعداء، وبكت بكاءً مريرا فرقّ لها المأمون ونزل.
وجاء ولدها لصاحب المطبخ وسأله: كم تحتاج من الغنم والدجاج والسمك والتوابل والسكر والعسل والطيب والفاكهة والعلف وغيره مما جرت به العادة، فأحضر جميع ذلك بزيادة، ثم أحضرت للمأمون من فاخر الطعام شيئا كثيرا حتى أنه استعظم ذلك.
ولما أصبح واعتزم الرحيل حضرت إليه ومعها عشر وصيفات تحمل كل منهن طبقا، فلما عاينها المأمون قال: جاءتكم القبطية بهدية الريف الكامخ والصحناه والصبر، فوضعت ذلك بين يديه فإذا بكل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته، فقالت: لا واللّه لا أفعل، فتأمّل الذهب فإذا به ضرب عام واحد كله، فقال هذا والله أعجب ربما يعجز بيت مالنا عن ذلك، فقالت: يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا، فقال: "إن في بعض ما صنعت لكفاية ولا نحب التثقيل عليك فردي مالك بارك الله فيك"، فأخذت حفنة من التراب وقالت: "يا أمير المؤمنين هذا، وأشارت للذهب، من هذا، وأشارت إلى التراب، ثم من عدلك، وعندي من هذا شيء كثير" فأمر به فأخذ منها، وأقطعها الضياع ومنحها مائتي فدّان دون خراج وانصرف متعجبا من عظم مروءتها.
وأخيرا فقد صدق الإمام الشافعي -يرحمه الله- حين قال: "من لم يتزوّج مصرية فليس بمحصن"، فقد عاش بمصر وخبر أهلها، وأثّرت وتأثّرت بعلمه وفقهه، كما يعرف الجميع.