عندما جاء الدكتور غازي القصيبي من بعثته في بريطانيا كان يمكن أن يكون أستاذا ناجحا متميزا في تخصصه، وأن يكون مرجعا في أبحاثه ودراساته التي يتمكن من إعدادها وهو على رأس العمل الأكاديمي، وهذا عمل رائع وطموحاته المشروعة لم تتوقف عند ذلك. فكل عمل يدخل فيه أو يشارك فيه يبرز، وكل لجنة يرأسها ويعمل ضمن طاقمها تبدع.
هذه المحددات هي التي لفتت إليه أنظار القيادة التي كانت ومازالت تبحث عن المبدعين والمتميزين وكان أن تم اختياره لرئاسة مؤسسة السكك الحديدية، وانطلق قطار معاليه السريع في كل ما أسند إليه من مهام وزارية ودبلوماسية.
هذه المقدمة لم تكن لتقريظ الدكتور غازي القصيبي ـ رحمه الله ـ فقد كتب عنه العديد من الكتاب والمثقفين السعوديين وغيرهم، وأعطوه حقه، وإن كان حقه أكبر مما كتب عنه.
فالقصيبي ينبغي أن يكون موضوعا للدراسات العليا في الإدارة والفكر والأدب بفنونه المختلفة كأنموذج للمواطن الذي أعطى حياته لوطنه، وللعالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.
لقد كانت الصحافة عندما كان القصيبي وزيرا قبل وزارته الأخيرة محدودة الإمكانيات طباعة وانتشارا؛ ولكنها في ظل ذلك تبحث عن التغيير الاجتماعي الإيجابي، عن المسؤول الذي يعمل وينتج ضمن خطط مدروسة فينعكس أثرها على المواطن في أقصر وقت ممكن، لهذا كان القصيبي نجمها الأول.
السؤال هو أنه كان للقصيبي زملاء في الوزارات الأخرى ولكن ما هي مآثرهم الوزارية التي انعكست على أرض الواقع ولمسها المواطن في حياته المباشرة؟ وأقصد بذلك الوزارات التي لها مساس مباشر بالمواطن السعودي؟.
والذي ينبغي على السادة الوزراء إدراكه هو أن المجتمع الذي كان القصيبي وزيرا فيه قبل وزارة العمل التي توفي وهو على رأس هرمها هو غير المجتمع السعودي الحالي بكل تجلياته وأطيافه. فالوزير حاليا مكشوف يستطيع أبناء وطنه رؤية ما تخبئه ملابسه والقيادة ـ حفظها الله ـ تستطيع معرفة خبايا الوزراء عملا وإنتاجا.
كما أن الصحافة آنذاك غير الصحافة المعاصرة الأكثر شفافية والمتواكبة مع الثورة المعلوماتية. كما أن الوعي المجتمعي يختلف عما كان عليه قبل عشرين سنة والحركة العالمية والإقليمية مختلفتان الآن، ومثلما قال خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ في إحدى جلسات مجلس الوزراء مخاطبا وزراءه: لقد أمنت لكم احتياجاتكم المالية وأكثر مما تطلبون، ومن اليوم أي تعثر في خدمة المواطن يكون الوزير هو المسؤول ولن تلقى على غيره من وكلاء الوزارة لديه.
فالوزير هو المسؤول عن اختيار طاقمه وبالتالي لا عذر له أمام الله ثم أمام القيادة ثم أمام الرأي العام السعودي.
لو استمع الوزراء لرأي المواطنين في مجالسهم العامة والخاصة وعبر وسائل الإعلام لأدركوا أن لكل وزير تقييما خاصا به لدى الرأي العام السعودي، فهناك وزير ناجح يدعى له بالخير حيا أو ميتا، ووزير متقاعس يشتم في المجالس أكثر مما تتحدث عنه وسائل الاتصال.
أتمنى ألا يكون من بين الوزراء من يتصور أن وزارته مزرعة خاصة به وإنما هي مزرعة ـ إذا جاز التعبير ـ يجب أن يكون ريعها لعموم المجتمع السعودي، ومن حق المواطن أن يحاسبه عند تقصيره ومن حق القيادة إحالته إلى مجاهل التاريخ السلبي.
لهذا على أصحاب المعالي أن يسألوا أنفسهم لماذا القصيبي وزير مختلف؟ والسؤال الآخر: هل اختلفت المشاريع الصحية بشكل جذري وملموس بعد عهد القصيبي؟ وهل الصناعة والكهرباء تغيرت بصورة غير عادية عن عهده عندما كان وزيرا لها؟ فالسؤال الأهم، هل معاناة المواطن مع هذه المرافق أفضل في عهد القصيبي؟ أو كانت بعده أفضل؟ لم يعد المواطن السعودي من السهولة إقناعه دون أن يعايش القناعات على أرض الواقع، فالسعوديون يتابعون بكل وعي مجريات الأحداث الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية، ولديهم القدرة السريعة على المقارنة والوصول إلى النتائج. فما يقال عن الخصوصية السعودية أكذوبة ولم تعد صالحة للتداول أو للتداوي.. نحن كشعوب الأرض التي تعي حقوقها وتدرك واجباتها وقادرة على الفرز، والوزير الذي يعيش في الماضي لا يتناسب مع المرحلة التي يقودها خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني. وينبغي عليه أن يرحل قبل أن يُرحل فيجر أذيال خيباته وعليه أن يتحمل وحده المسؤولية كاملة دون مواربة أو لف أو التفاف، فما كان يقبل في الماضي أصبح مرفوضا في الحاضر، فالرأي العام السعودي المتمثل في مؤسسات المجتمع المدني لم يعد دورها تلميع (معالي الوزير)؛ وإنما دورها مكاشفته ومحاسبته على ما أنتج وعمل لخدمة المواطن.
لولا وجود المواطن لما كان الوزير وزيرا، وبالتالي على الوزراء أن يعرفوا تمام المعرفة أنهم جاؤوا لخدمة المواطن وليس لخدمة ذواتهم ومصالحهم والمحسوبين عليهم عائليا أو مناطقيا دون النظر إلى الكفاءة. والوزير يتحدد ويقاس بما يقدمه من خدمات لأبناء هذا الوطن وفق خطط التنمية بمختلف مشاربها واتجاهاتها. والقيادة كما أؤمن لن تتسامح مع وزير كلفته لخدمة المواطن، وفك الاختناقات الاقتصادية والصحية والتعليمية التي تواجه المجتمع فيتقاعس عن أداء مسؤولياته.
لهذا نتساءل ماذا سيفعل خليفة القصيبي ـ رحمه الله ـ في وزارة العمل لمعالجة البطالة؟ وماذا يمكن لوزارة المالية أن تفعله من إحداث وظائف تستوعب البطالة؟ وماذا ستفعل وزارة الخدمة المدنية في تنفيذ خطط استيعاب البطالة؟ وماذا سيفعل وزير الصحة في إيجاد استشفاء شامل لأبناء هذه البلاد دون انتظار المواعيد لشهور لزيارة طبيب؟ فلنأخذ الرياض العاصمة مثالا، كم عدد المستشفيات الجديدة التي تم إنشاؤها فيها بعد أن ترجل الدكتور غازي القصيبي عن وزارة الصحة؟.
ولا يحدثني أحد عن المراكز الصحية بالرياض وإمكانياتها التي لا تملك غير تحويل المرضى إلى مستشفى الملك سعود. والسؤال الأخير عن هيئة الاستثمار التي حولت العمالة الأجنبية التي كانت تحت كفالة مؤسسات وطنية للمقاولات وتُعنى ببناء عقارات المواطنين في المدن والقرى بأسعار مناسبة حولتهم إلى مستثمرين أجانب جلبوا أبناءهم وإخوانهم وأقاربهم وما يعرفون وما لا يعرفون لتجفيف ما تبقى من سيولة مادية في جيوب المواطنين مع ما يترتب على ذلك من آثار سلبية مختلفة على المجتمع؟.