افتتحت مقالتي السابقة (تساؤلات مشروعة في قضية النشوز) بقصة واقعية لامرأة تعاني بسبب حكم عليها بالنشوز، وكان التساؤل حول الحكمة من الحكم على المرأة المتهمة بالنشوز أن لا نفقة لها ولا سكنى، حيث إن حكم القاضي يتأسس على بعض الآراء الفقهية التي لا تستند إلى دليل، لا من القرآن الكريم ولا من السنة الصحيحة؛ وما ينطبق على قضية النشوز ينطبق على كثير مما له علاقة بأحكام الفقه المتعلقة بأمور الزواج والطلاق، وذلك بالرغم من أن القرآن الكريم خصّص من الأحكام الواضحة لقضايا الأسرة ما يمكن الاعتماد عليه ليكون نواة لفقه خاص بالأسرة متسق مع الحياة المعاصرة والتي تتميز بتأسيس القوانين على الحقوق، وليس كما هو موجود في كثير من كتب الفقه التي تخضع لمزاج فقهي متشدد خاصة في قضايا المرأة.

أوردت صحيفة الوطن في عدد سابق قصة واقعية – أيضاً – لامرأة طلقها زوجها دون علمها، ومع ذلك كان يعاشرها معاشرة الأزواج لمدة خمسة شهور، ولما علمت المرأة بأمر الطلاق ورفعت أمرها لأحد القضاة حكم على الزوج بالسجن لعدة أيام، مما أثار تساؤلات بعض الكتاب وخصوصاً الكاتبات، وذلك بسبب تجاوز الزوج الواضح على أمر الله، وتعاطف القاضي معه، ولكن هذا غيض من فيض تعاطف الفقه التقليدي مع الرجل عموماً، ولقد أتحفنا هذا الفقه بكثير من الأمور أقل ما يقال عنها أنها العجب العجاب!

على سبيل المثال: الطلاق بالكناية، يقول الحكم الفقهي إن الطلاق لا يقع إلا بنية الطلاق المقارنة للفظ، بمعنى أن الرجل قد يكني ولا يصرح بالطلاق، فلا يقع الطلاق إلا إذا نواه الزوج. والسؤال المطروح هنا: كيف للمرأة أن تعلم نية الرجل: هل طلقها أم لا؟ من الممكن أن يقول الرجل للمرأة بضع كلمات تفهم منها أنه طلقها، ثم تعتدّ ثلاثة شهور، وبعد انتهاء العدة يأتي الزوج ويخبرها أنه لم يكن ينوي طلاقها، وأنه لا يحق لها الزواج من رجل آخر لأنها ما تزال في عصمته، وهكذا فمن السهل أن يكون ميثاق الزواج مجالا للتلاعب، مع أن الله سبحانه سماه (ميثاقا غليظا) وهي التسمية القرآنية الواردة في موقع آخر له علاقة بالميثاق بين الله والأنبياء، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى قدسية رباط الزواج، وقد أوضح ذلك النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بحديث (ثلاثة جدّهن جدّ وهزلهن جدّ: النكاح والطلاق والرجعة) ورغم وضوح الآيات الكريمة حول ميثاق الزواج الغليظ ووضوح هذا الحديث فإن كل ذلك يرميه الفقه التقليدي وراء ظهره، ليسهُل على الزوج التلاعب بعواطف المرأة وحياتها فيطلقها متى يشاء ويعلّقها إلى متى يشاء.

يتكئ الفقيه التقليدي هنا على حديث (إنما الأعمال بالنيات) مع أنه من المعلوم أن العبادات هي التي تتعلق بها النوايا لأنها حق الله القائم على المسامحة، أما حقوق الناس على الناس فلا يجب أن تربط بالنوايا الخفية لأنها قائمة على المشّاحة، فما بالنا إذا كانت هذه الحقوق ليست كأية حقوق أخرى بل هي الحقوق التي خصّها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله:(إن أحق ما توفون به من الشروط ما استحللتم به الفروج)؟ هذا سؤال مشروع حول الطلاق بالكناية والذي لا يستند أيضاً إلى أي دليل شرعي من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، ولا عجب إذا علمنا أن الفقه التقليدي هو الذي أجاز الزواج بنية الطلاق على ما فيه من تلاعب واضح، فلماذا لا يجيز التلاعب بالطلاق كما أجازه بالزواج؟!

هذا ما يمكن الاستشهاد به كمثال على الطلاق، أما الخلع ففي بعض كتب الفقه أن الزوج يمكنه ألا يطلق المرأة ما لم تدفع له ما يريد على سبيل العوض، مع أن المثال المتعارف عليه في العهد النبوي هو المرأة التي جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهي التي تريد أن تنخلع من زوجها، فقال لها:(أتردّين عليه حديقته؟) وهي بستان كان زوجها قد أمهرها إياه، فقالت: نعم فقال النبي عليه الصلاة والسلام للزوج:(خذ الحديقة وطلقها تطليقة)، ولم يقل لها أعيدي له تكاليف الوليمة ونفقة الأيام التي أمضيتماها معا، كما يحصل الآن من القاضي الذي يوافق الزوج على طلباته باسترداد تكاليف حفل الزواج وما أنفقه على زوجته بعد ذلك، من تذاكر طيران ومصاريف شهر العسل وثمن أثاث البيت إلى الهدايا التي لم تكن من ضمن المهر المشروط، فهذا كله ليس من حق الزوج أن يطلبه إذا أرادت المرأة أن تنخلع منه، ويكفي أن نقول: إن الرجل ذو الكرامة والمروءة لا يمسك امرأة وهي عنه راغبة!

أما ما هو أغرب من ذلك في موضوع الخلع فهو الحكم الفقهي الذي يقول:"وإذا فعل بعض المحرمات ولم يجبرها على فعل محرم فلا يجب عليها أن تنخلع منه لقوله صلى الله عليه وسلم:(أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة)". والسؤال هنا: ما المقصود بعبارة (إذا فعل بعض المحرمات) وهل طلب الطلاق هنا يدخل ضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (في غير بأس) أي هل إذا كان الزوج يشرب الخمر أو يتعاطى المخدرات أو يرتكب كبيرة الزنى أو أياً من الموبقات والمحرمات، فهذا مما لا بأس فيه؟! وهنا يجب القول إنه ليس على المرأة أن تنخلع بل إن من حقها فسخ العقد، وهكذا لا يحق للزوج أن يطالبها بالعوض، لأن الخطأ خطؤه هو، ولا يجب على الزوجة أن تدفع الثمن، أما إذا شاءت أن تحتمل الوضع وتصبر – كما هو الحال السائد من أجل خيال المآتة أي ظل رجل ولا ظل حيطة!- فهي وما اختارت، لكن لا يصح أن يقال إنه لا يجوز أن تنخلع من رجل مدمن مخدرات أو سكير أو متعدد العلاقات!