محاولة فاشلة تلك التي قادها صديقي صباحا، ليقنعني بتحكيم صوت العقل لأغلق صوت مذياع السيارة؛ لأن الأغاني مفسدة تقطع الرزق!
بدهشة قلت له: رغم اعتراضي على وصفك الطلب بالعقلاني، إلا أنني شخصيا لا أتصور أن تقنعني بالتخلي عن هذه اللحظة الروحانية، أو الدخول إلى مأزق عقلنة صوت أم كلثوم صادحا "ياصباح الخير ياللي معانا"، وموسيقاه العذبة، أو تغريد السيدة فيروز بكل متعة الصباحات الباعثة للحياة، و"طيري ياطيارة طيري ياورق وخيطان"، فروحانية اللحظة المحلقة هنا، لا تسمح للعقل أن يحضر ليغلق أو حتى ليفسر "وينساني الزمان على سطح الجيران".. توقف يا صديقي فهذا غير ممكن.
لأن مجرد محاولة إقصاء الروحانية هنا، سيفقد العقل القيمة المنطقية لوجوده كمقيم للإدراك بكافة خبراته ومعارفه، ومعها سنعود إلى حالة البحث عن اللحظة المتصالحة مع الوجدان، وتفسير العلة من وجود الأشياء وطريقة التواصل مع جمالياتها، ومنذ فجر التاريخ الإنساني لم تهدأ حدة الجدل والصراع بين العقل والروحانية، ولخص سعي الإنسان الدائم وبحثه عن الحقيقة وتجلياتها، عطشه إلى الإبداع والنورانية والسكينة معا، إذ في الوقت الذي استولت فيه متغيرات اليوميات المتسارعة على طريق خطوات البشرية، بحوادثها التي تُخل أحيانا بحالة الطمأنينة والتوازن، وهي التي تتقاطع معها في أوقات تاريخية كثيرة، برزت كظواهر عجز الإنسان عن إيجاد تفسير لماهيتها وكيفيتها، ما تسبب في طغيان كفة على أخرى، وغلب على مشهد كثير من المجتمعات الإنسانية وتفاصيلها خيار التوجهات الروحانية بكل جوانبها وأبعادها، لتشكل في عمقها ثقافات روحانية مسيطرة عدوانية في معظمها، تبدأ بالتراتيل وتنتهي بالقرابين البشرية في أقصى حدودها، منتجة طبقية وإقصائية تشرعن لانتشار الخرافة على حساب العقل والمنطق، وتكرس لمبادئ الاستحواذ والظلم والإقطاعيات، حتى فقدت معه تلك المجتمعات الكم الأكبر من الحس الإنساني والأخلاقي، لتنحسر فضيلة تأمل الصيغ الممكنة والمثيرات المكونة لحالات إبداع العقل، فيما صبغت الأطروحات "الميتافيزيقية" بخطابها "الدوغمائي" الثقافة العامة لتلك المجتمعات.
والروحانية في الغالب توصف على أنها حالة تحليق تتألق وتزدهر خارج حدود العقل والمنطق، وتتعامل مع المتعلق بالروح في البعد "الميتافيزيقي" الماورائي، وتشجع وتؤمن بالقوى الخارقة المتعدية لحدود الطبيعة والمدركات، كقوى الآلهة الوثنية اللامحدودة، وغيبيات علم الفلك والأبراج، وإشاعة التسليم بها دون النظر إلى اعتبارات التفسير العقلي، وتعدّ الروحانية أهم الدوافع المحرضة للإبداع إذا ما تناغمت مع قدرات العقل البشري وأطروحاته، إلا أن نزعة السيطرة العمياء للروحانية، وتفضيلها عند المستفيدين من طغيانها، قد تسببت في تغييب العقل البشري، وجعلته يعيش أسوأ فتراته التاريخية على الإطلاق آنذاك.
اليوم تكرر بعض المجتمعات الإنسانية بدايات نفس المشهد، ولكن هذه المرة على الوجه الآخر المنتصر للعقل والعقلنة على حساب الجوانب الروحانية، في عملية إعادة إنتاج هزلية للفكر الأحادي بشكل مقلوب، متناسية حقيقة أن العلوم على اختلافها وتنوعها، لا يمكن لها اختزال الإنسانية وعظمتها في كل الأحوال؛ لأن ذلك من شأنه أن يحول الإنسان إلى مجرد آلة فجة عديمة الإحساس ومعطلة الإبداع، ويضعها في أدنى مراتب الخلق والوجود.
وفي تاريخ التراث العربي، يجسد حلاج بغداد الحسين بن منصور، وأبو حامد الغزالي، أبرز وأقوى لحظات الصراع العقلي الروحاني، بل وأصدقها على الإطلاق، والنهايات المصيرية المتباينة لكل منهما، توكد على شراسة الاستفهامات التي أنتجها الجدل بين عقلنة الأشياء وروحنتها، وكان لردود أفعالها قسوة فسرت فيما بعد: لماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟، وتحكي الفترات التاريخية العربية والإسلامية، التي تم خلالها تحييد العقل وتضعيف الاعتماد على رؤيته للنص الديني والمعتقد، وتغليب قاعدة الأخذ بالنقل على حساب العقل؛ الانهيار الفكري والحضاري بعد عملية الصعود في القرون الخمسة الأولى.
في رأيي أن العقل والروحانية توأمان متلازمان تلازم القراءة والكتابة، وبغياب أحدهما يفقد الآخر قيمته النوعية كمؤثر ومحرض إيجابي، وتنحسر حد الغياب المنزلة الإبداعية لأي منهما، واحترام الطبيعة التكاملية بينهما مهم جدا لتحقيق حالة الاستقرار؛ وتكوين منطلقات تُفضي إلى نواتج إبداعية نوعية.