تقابلك كل يوم الأخبار عن المترو في جدة والرياض، وتشاهد محطات القطار تبنى، وتشعر بفرح يشوبه قلق؛ هل ستصبح مثل الكباري والأنفاق حلا آخر فاشلا أمام الزحام والموت والاستفزاز على الطرقات السعودية؟
في معظم الثقافات ستجد مثلا متداولا ينبهك إلى أن الوقت مال، إما أن تحفظه أو تهدره، ولو قمت بحساب ما يتم دفعه لك بالساعة، ستكتشف أنك تهدر آلاف الريالات على الانتظار في إشارات المرور في السعودية، وسيبدو لك من ناحية أخرى سيل السيارات الهادر كوحش أو تنين يبث سمّه في أجواء مدينتك ملوّثا الهواء الذي يستنشقه أطفالك، ومؤثرا على صحة البيئة، بل بقائها لتحتضن أحفادك، فضلا عن السباب والشتائم والتلوث الضجيجي الذي يحدثه قائدو المركبات؛ مما يجعلك مستفزا طوال اليوم في جدة أو الرياض أو حتى الدمام، كما أن الطرق السعودية تحصد كل يوم آلاف الأرواح، ربما حصدت أكثر من قتلى ألمانيا في الحرب العالمية الثانية!!
يثير دهشتك عدم التزام السائقين بمسارات الطرق، تلتفت لليمين فتجد سيارة تعتلي الرصيف ويعيدك للرصيف الآخر.. شتيمة بلغة "البوري".. سيارات تقف بحسب رغبة القائد وبالطريقة التي تعجبه حتى لو لزم الأمر إقفال الطريق، كأنك في شارع "خل الدرعا ترعى".
لدرجة أن تشعر بالشفقة على كل من يضطر للخروج من بيته والسير في طرقات المملكة. الحياة في الغربة تعلمك شيئا مهما عن بلادك وحكومتك، وهو أنها تتعامل في جوانب مهمة بعاطفة شديدة مع المواطن ومع رجل الأعمال وحتى التجار أصحاب البقالات الصغيرة، هذه العاطفية في التعامل تنتهي بعواقب وخيمة على المجتمع وبنية البلاد ومنشآتها؛ ومثال ذلك دعم البنزين وجعله برخص التراب للمواطن، أضف إلى ذلك الأخبار المؤكدة عن نفاد الطاقة في السنوات القادمة، الطاقة التي تعني البترول، وهو منتجنا العظيم الذي يقوم عليه اقتصادنا الذي يدفع فاتورة الاستهلاك لدينا.
مع سعر الوقود الحالي لن يستخدم أحد المترو أو المواصلات العامة، وسيظل شراء سيارة واستخدامها أمرا مرغوبا فيه، فأنت تمزح معي إذا أردت مني أن أركب المترو وأشتري تذكرته بثمن أستطيع به أن أملأ سيارتي بنزينا وأذهب بها حيث أشاء!!
كما أن الشركات تكسب الملايين من وراء هذا التخفيض ولا تهتم مطلقاً بالبيئة، بل بالرصيف المقابل للشركة أو المؤسسة ولو حتى بتنظيفه، فضلا عن أن تقوم بدعم المدارس أو الجامعات أو المستشفيات؛ ما يجعل السعودية الفردوس لرجال الأعمال، حيث يجبرون في كل العالم على دفع ضرائب أو خدمة المجتمع.
بالأمس قرأت أن دبي تستفيد من ضريبة المواقف 30 مليونا سنويا، وقبلها لندن تكاد تعيش على ضرائب الطريق والمواقف التي تستخدم أموالها لإنشاء مكتبات ومتاحف ونشاطات إنسانية في الحي أو المنطقة ولا تذهب لجيوب أحد، تصور أن تحصل جدة على مبلغ 30 مليوناً تقدم به لكل حي حديقة وتنشئ به مراكز ثقافية ومكتبات توظف بها شباب الحي ساعات عمل تعينهم وأسرهم، وذلك يقودنا لحكمة الإسلام الخالدة "صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم".
قد يقول أحدهم إني أدعو لشيء ليس في الإسلام وهو الضريبة، وأقول: لم نسميها ضريبة؟ فلنسمها أجرة الحكومة على صيانة الطرق، خاصة أن أموال البترول التي يصرف علينا بها أصبحت مهددة، ونفاد البترول ومنافسة أميركا لنا بالبترول الصخري أصبحت واقعا يجب ألا نقابله بعاطفية شديدة ستكلف بلادنا الكثير! كما أن مثل هذه المبالغ ستؤخذ من أناس يملكون سيارات وناقلات وشركات عملاقة ويستطيعون تجنبها باستخدام المواصلات العامة، ففي الحالتين سيكون الوطن الرابح، نحفظ البيئة وتكون المنطقة مصدر دخل يضمن رضا سكانها دون أن تدفع الدولة فاتورة هذه الخدمات التي تفتقدها كل أحياء المملكة، فمن المحزن أن ترى حيا لا توجد فيه مكتبة أو نادٍ أو حديقة أو مركز اجتماعي تعقد فيه فعاليات تكمل الدور الثقافي الذي تقدمه المدارس.
ومن جانب آخر، فإن الناس في كل مكان يحتاجون لقانون صارم متابع ليسيروا وفقه، والغرامات المالية مهمة ليتصرفوا كبشر يهتمون بنتائج تصرفاتهم ويتابعون ردات فعلهم، وكما رأينا كيف يلتزمون بمقدار السرعة في الخطوط السريعة؛ بسبب نظام ساهر الذي وإن أثبت فعاليته في ردع مجانين السرعة على الطرق السريعة، إلا أن نجاحه لم يكتمل لعدم استفادة المجتمع من المبالغ التي يتم جنيها من هؤلاء. لذا وتبعا لما سبق ليس الغاية فقط تهذيب السائقين، ولكن أيضا إيجاد مصدر دخل للخدمات المجتمعية في مناطق معينة أخدت منها هده الغرامات.