بالسخرية وبمبالغاتها يبني ويؤثّث نائل الطوخي روايته "نساء الكرنتينا" (دار ميريت، القاهرة ـ 2013). يختارُ الإسكندريّة مسرحاً لأحداث الرواية، ويعيّن لأبطاله زمناً متقدّماً من القرن الحادي والعشرين ينتهي في الثامن والعشرين من مارس 2064 على خلفية من البدايات ترتبط بلحظة التحوّل التاريخي منذ "كلّنا خالد سعيد" وما تلاها إلى ثورة 25 يناير 2011. هذا التاريخ الرسمي الذي يبشّر بتغيير سياسي واجتماعي واقتصادي؛ تتناوله سياطُ السخرية في "نساء الكرنتينا" صعوداً في درج الزمان بشخصيّاته وأحداثه بما ينسف هذا التاريخ وتحوّلاته وبشائره، ويحيله إلى متوالية من التفسّخ والابتذال والفوضى وتدهور القيم وانحطاطها، والتواطؤ الاجتماعي بقبول هذه الصورة والاستمرار فيها، مع رفَعِ مَن شاركَ في هذه المتوالية المتقيّحة إلى منزلة الأسطورة التي يصنعُها التاريخُ الضد؛ التاريخُ البديل الذي ينأى عن المكتوب وعن الوثيقة ويلتحم بالشفوي ومصفاته واسعة الثقوب تمرّر النقيضين وتدمجهُما صانعةً التاريخ البديل؛ التاريخ الحي تحمله ثلاثة أجيال متعاقبة على مدى أكثر من ستين عاماً، وتعيد إنتاجه دماً جديداً تؤسّس به سيرتها وترسي دعائم سطوتها المستمدّة من الانتفاع بالدين والاشتغال بعالم الدعارة وسوق السلاح وتجارة المخدرات.

تتألّف الرواية من ثلاثة فصول تستبطن حكاية الأجيال الثلاثة بشخصياتها الرئيسية والثانوية (علي؛ إنجي؛ أبو أميرة؛ الحاجة اعتماد؛ مدام نادية؛.../ حمادة؛ صباح؛ سعيد؛ منّة الله؛ عادل؛.../ يارا؛ لارا؛ أميرة؛ محمد؛ يحيى بركان؛...). شجرةُ الأجيال بفروعها وامتداداتها وبمن استظلّ بها، يفرد نائل الطوخي أوراقها؛ ورقةً ورقة. يبطّط كل واحدة منها ويُظهِر عروقَها الداكنة بمائها اللزج، يساعده تقسيم كل فصل إلى وحداتٍ رقمية هي أيضاً مقسّمة بفواصل من النقاط. هذه المتابعة الدقيقة في التشجير والتفصيل والتفكيك لأوراق الحكاية بمثابة توريقٍ لا يفتأ يتكاثر كسمة مصاحبة للحكاية الشفاهية التي تتضخّم بالتداول؛ تبعاً للراوي وما يضيفه وما يحوّره أو يتركُهُ ثقباً في حكايته ينتظر من يسدُّه بحكاية أخرى يفعلُ فيها، تراكمُ الأحداث وتوالي الشخصيات ودورةُ الزمن، فعلتَهُ كما هو الحال مع حكاية الجد "بخيت" وصناعة أسطورته ومهابته في الصعيد بجذوره الإسكندرية. "علي" يبحث عن وهم الجذور في بخيت العسكري، فيما زوجته وشريكته "إنجي/ إنشي" تشيّد وهمَها الآخر في بخيت الطبيب. والحال نفسه مع صناعة أسطورة حربي المقاوم للسلطة أو الحرامي العالة على زوجته، ومثله طبق الأصل سيد وسلطان وسيكا الذين استعيدوا في صورتين متباينتين في حدّ الأسود والأبيض من فريق الكرنتينا يمثّله الابن حمادة والحفيدتان يارا ولارا ومن فريق الكربنتينة الذي يمثّله سوسو الأخ الأصغر لـ"أبو أميرة" وزوجته منّة الله وابنتها أميرة.

بسلاح السخرية يحطّم الروائي أوهام "الفتوّة" و"الرومانسيّة" التي اختبرها القارئ روائيّاً عند نجيب محفوظ وطالعَها سينمائيّا أو تلفزيونيّاً في العديد من الأفلام والمسلسلات. وكأن نائل الطوخي يقيم "حفلة مسخرة" لا يوفّر فيها أحداً؛ لا تاريخاً ولا ذاكرة ولا "ذائقة" أيضاً. الجميع موقوفون تحت "مزراب التاريخ البديل" ينهال عليهم ماءً كَدِراً؛ تبقّعُهم ألوان السخرية بكلّ ما فيها من حدّة ومن تنافرات تبين عنها تحوّلات الأحداث ومعها الشخصيات يجري قبولها باستنابةٍ قدريّة؛ ذلك "النصيب" العجيب الذي ينكّل فيه الطوخي على نحوٍ تكراري، ويتبدّى شخصيّة مهيمنة لا تنفكّ عنها كائنات "نساء الكرنتينا". وربّما يجسّدُ النفق الذي حضرَ في الفصل الثالث الأخير ملتقَى الخُلاصات والنهايات. تحت الأرض ينشأ عالمٌ موازٍ للخارج ولكنه موغل في الدلالة، حين يشهد النفقُ الذي يصل بعرباته المترو بين الحيين المتصارعين (الكرنتينا والكربنتينة) التدهورَ التام والكامل للحياة البشرية؛ من جهة العلاقات ومن جهة المعيشة، والارتطام بين الفريقين وبين المؤسسة الرسمية التي أرادت تطهير المكان من العشوائيّات بقوّة النار؛ فكان "قرار المواجهة" وفي الوقت نفسه يقوم الأحفاد (يارا؛ لارا؛ أميرة) بالتواطئ، كل من ناحيته، على تفجير النفق بمن فيه وهن داخله؛ قيامة مأساويّة تتحصّن أيضاً بالقدر "أنا ربنا ألهمني الحل دوّت من عنده وأنا باصلي الاستخارة امبارح، ص 360".

مع متعة الحكاية التي برع فيها الكاتب واستطالت مع ظلالها المرجعيّة تاريخيّاً وثقافيّاً، وكانت للقارئ ينبوعاً صافيّاً من الابتسامات أو القهقهات، إلا أن إغواء هذه الحكاية تمكّنَ من "نساء الكرنتينا" إلى درجة التشبّع والاستنفاد، إذْ بات القارئ على توقّع بمناخ تصرّف الشخصيات وبتعليق الروائي عليها، بمعنى انحسار الحكاية من جماليّتها الرئيسة واقتصارها على الحدثيّة، حتّى إنني عندما قرأت هذه الجملة "يمكننا أن نسمّي هذه الليلة بالليلة التي بلا نهاية ـ ص 355" خطرَ لي أن أعدّل فيها بطريقة نائل نفسه "!!".