محمد مشكور
حين كنت طفلاً، قرأت قصة جميلة، وهي عن حمارين، أحدهما يحمل "ملحاً" على ظهره، والآخر يحمل "إسفنجاً"، وكان الحمار الأول يعاني من ثقل حمولته "الملحية"، ما لا يعانيه الآخر بحمولته "الإسفنجية"، ولأن حمولة الملح أثقل وأشق من حمولة الإسفنج كما هو ملاحظ ومعروف.
وبعد مدة، وصل الحماران إلى بركة ماء، فقرر الحمار الأول (الذي يحمل الملح) الدخول إلى البركة بجسده كله لشرب الماء، بدلاً من الوقوف والانحناء لفعل ذلك، فيما قرر الثاني أن يشرب الماء كما اعتاد الحمير على فعل ذلك، بالانحناء فقط، ودون المجازفة بالدخول كلية في البركة.
وحين خرج الحمار الأول من البركة (بعد شربه وسباحته)، كان قد خسر جميع حمولته الثقيلة، وذاب الملح في الماء واختفى، وخرج خفيفاً نظيفاً فرحاً يقفز هنا وينهق هناك.
وحين راقب الحمار الثاني ذلك، أراد أن يقلده، على الرغم من حمولته الخفيفة، فقفز إلى البركة، هو وحمولته "الإسفنجية"، وسبح واستمتع وشرب حتى شبع.
وحين خرج من البركة، كان الأسفنج قد "شفط" الكثير من الماء، وصارت حمولته ثقيلة لا تطاق، وصار لا يقوى على السير من جراء ذلك، فصار تعيساً يشجب هنا ويلعن هناك.
وهذه القصة تحكي عن التقليد الأعمى، وعنوانها كذلك، وهي تصف حال الحمار الذي لم يفكر في معطيات حمولته، وراح يقلد تجارب غيره ممن له حمولة مختلفة، ومعطيات أخرى.
تصدير التجارب، أو استهلاكها:
ويبدو أن هذه القصة مناسبة لمجتمعاتنا بشيء أو بآخر، وهي تصف علاقتنا مع بقية المجتمعات من ناحية محاولتنا لتقليد تجاربها، على الرغم من اختلاف ظروفنا ومعطياتنا.
ونحن إذ نقلد، نكون (كما هو واضح) كذلك الحمار الذي أراد أن يتخلص من حمولته الخفيفة، فزادها ثقلاً، أضعاف ما كانت عليه، وصار لا يقوى على السير بفعل محاكاته لتجارب غيره، ولأننا لا نفعل، ولأننا نحاكي ولا نبتكر.
والمجتمعات الأخرى تعمل على ابتكار التجارب، وإنجازها، والعمل على تطويرها، ونحن لا نفعل سوى استيرادها واستهلاكها وتقديرها، ولم نصل بعد إلى مرحلة التصدير والابتكار، ولم نساهم في الحضارة الحالية، ولم نؤثر، ولم ننظر لمعطياتنا ولا لاحتياجاتنا، ونستورد ما لا يلزمنا، ونبعد ما ينفعنا.
ومن هنا ننتج نماذجنا المقلدة ومفاهيمنا المستهلكة وتجاربنا المعادة وأفعالنا المستوردة، وبذا لا نكون كتلك المجتمعات المتجددة.
وننظر للآخرين لا كما ينظر الكبار لبعضهم بعضا، بل كما ينظر الطفل للكبار، وحيث يهتم برأيهم عن نفسه؛ أكثر من اهتمامه برأيه هو.
ومما يمثل طفولتنا هو حملة التنظيف الواسعة والاهتمام الشامل بالساحات والأماكن العامة في فترة زيارة وفد أجنبي أو استضافة قمة معينة، وما إن يغب الحدث حتى تغيب النظافة والنظيفون معه، وتعود شوارعنا كما اعتدناها، مزينة بعلب المياه الغازية، وبقايا السجائر الأجنبية، ومخلفات الأطعمة المستوردة والمحلية!.
الخلاصة:
إن أردنا التجدد نظرنا لمعطياتنا ومواردنا وتراثنا وحاضرنا كإمكان لأن نبتكر ونخلق، ولأن نحوله إلى مساهمة حضارية، وإنجاز حضاري، ولأن حمولتنا خفيفة "إسفنجية" لا كحمولة الآخرين "الملحية"، ولأننا مجتمعات غنية.
وإن أردنا التقدم: نضجنا وبلغنا وكبرنا وابتعدنا عن التبعية والتكرار، وصار اهتمامنا بالابتكار لا بالتقليد، وبالإنجاز لا بالتعقيد، وصرنا نهتم برأينا كما نأخذ بآراء الآخرين، ونمزج كل ذلك لننتج نموذجنا الخاص بنا، ولأن لكل مجتمع خواصه ومعطياته، ولأن لكل منا معالمه، وحتى لا تضرنا نماذج الآخرين غير النافعة لنا، وحتى لا نملأ الإسفنج بالماء.
وإن أردنا التغير ابتعدنا عن التمركز حول الذات، وانفتحنا على الآخرين مسهمين ومشاركين لا مستهلكين، والانفتاح على الآخر لا يعني تقليده واستنساخه، فيما يعني استثمار نتائجه والنظر والتفكير فيها.
وكل ذلك يعني كسر قيود التبعية والانطلاق نحو مرحلة البلوغ والنضج، وحتى لا نكون كذلك الحمار الذي لم ينظر لحمولته، بل غره فعل غيره وأبهره، ودفع في ذلك ثمناً ثقيلاً.
إذاً، فلنترك حبال التقليد ولنتحرر من قيود الاستهلاك والاستيراد، ولننتج نماذجنا ولنبتكر خياراتنا ولنخلق حياتنا بالإفادة من تجاربنا، ولننظر في الإسفنج؛ لا في السباحة.