تتشابك الأحداث في أرض السواد، بما يقترب مما يجري في سورية، لتؤكد أن الأمن وحقائق الجغرافيا لا تعترف بالحدود، ولا بالاتفاقيات، التي نتجت عن تقسيمات سايكس- بيكو. فكما تتغير خارطة التحالفات بين قوى المعارضة في سورية، بما يفوق سرعة الضوء، تتغير خارطة التحالفات السياسية أيضا بين قوى المعارضة في العراق، بنفس الوتيرة، ليعود للمثل الدارج حضوره: كلنا في الهم شرق.
فهناك عودة مكثفة للتفجيرات والسيارات المفخخة. وتتزامن هذه العودة مع انتفاضة شعبية كبرى تتخذ من الرمادي والفلوجة بمحافظة الأنبار منطلقا لها، وتطالب برحيل رئيس الحكومة نوري المالكي عن السلطة. وهناك الخشية من تفتيت العراق، إذا ما تطورت الانتفاضة، وبقيت مقتصرة على محافظات محدودة، بما يعني قطع شريان المركز بسد المنافذ البرية الغربية عليه، التي تخترق بالعرض محافظة الأنبار.
تتزامن هذه التغيرات السريعة مع عودة التنسيق، بعد انقطاع طويل، بين القيادة الإيرانية والإدارة الأميركية، حول الملف النووي الإيراني، ولنعكس ذلك مع تنسيق آخر يطال الشأن العراقي. فنائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن سارع بعد تصاعد الأحداث للاتصال بالمالكي، وقدم له تأييد إدارة بلاده له للحرب التي يقودها الجيش والشرطة العراقية في مواجهة داعش، تحت شعار محاربة الإرهاب. وتذكر وكالات الأنباء في هذا السياق أن بايدن شجع المالكي على الاستمرار في بناء الجسور مع زعماء العشائر والقبائل والمسؤولين المحليين. وليتبع هذه التصريحات إعلان نائب رئيس الوزراء العراقي، صالح المطلك، الذي عرف بمعارضته للمالكي أن مجلس الوزراء سيناقش مطالب المعتصمين في جلسته المقبلة.
وإذا ما وضعت هذه التطورات في سياق ما يجري في سورية، وأيضا في سياق تصريحات تركية وروسية، فإن ذلك يعني أن هناك اتفاقا دوليا، في هذه اللحظة على تصفية تنظيم داعش.
المتغير الآخر في السياسة العراقية هو استغاثة حكومة المالكي بالصحوات، التي استثمرت من قبل إدارة الرئيس جورج بوش في القضاء على القاعدة، وكان ما لحق بها بعد تصفيتها للقاعدة فيما عرف بالمثلث السني هو جزاء سنمار. فقد تنكرت حكومة المالكي لدور الصحوات في تثبيت الاستقرار، والقضاء على الإرهاب في عدد من المحافظات العراقية. والعودة النسبية للأمن، وكان تجاهلها والتنكر لأدوارها هو ما دفع بقادة الصحوات للالتحاق بالانتفاضة العراقية، التي اتخذت من الأنبار مركزا لها، وأيضا التضامن مع الكتلة العراقية، التي يقودها إياد علاوي.
لقد التحقت الصحوات مجددا بالحرب على الإرهاب، وتمكنت من إلحاق الهزائم بتنظيم داعش. لكن ذلك سوف تكون له تبعاته على الحكومة المركزية في بغداد. فالطبيعي أن تطالب الصحوات بثمن وقفتها إلى جانب الحكومة المركزية، وأن يترجم ذلك باستحقاقات سياسية. وذلك هو مأ أشار له المطلك عن عزم الحكومة العراقية مناقشة مطالب المعتصمين.
فجأة ومن دون سابق إنذار، وجدت “داعش” نفسها في حرب ضد الجميع… واشنطن تحرض عليها، وتحشد المعارضات السورية لقتالها، يسعى سفيرها في سورية روبرت فورد لفرز داعش عن الجبهة الإسلامية. ودعم التحالف القائم بين هذه الجبهة وجبهة النصرة، التي أدرجتها واشنطن سابقا في قوائم الإرهاب.
المالكي سيتمكن مرحليا من تحجيم داعش، ولكن ذلك سيتم بسيف الدعم الأميركي العسكري والسياسي، وسيف الدعم الإيراني غير المحدود، واستجابة عرب الأنبار لنداءاته. والأغلب أن تعود الرمادي والفلوجة لحضن الدولة، لتبقى معسكرات “داعش” في صحراء الأنبار أهدافاً سهلة للطيران الحربي والمروحيات والقصف المدفعي والصاروخي، ولكن ذلك لا يعني حتمية التمكن من القضاء عليها.
هل فعلا أزفت لحظة تصفية داعش، وانتصار الحكومة المركزية في بغداد، بعد أن اتخذ القرار الدولي الإقليمي باجتثاثها؟ هذا سؤال لن تكون الإجابة عليه سهلة. فالتنظيم يمتلك خبرة قتالية طويلة، والأرجح أن تنفيذ القرار الدولي باجتثاثه، يحتاج أشهراً وربما سنوات، ومعارك طاحنة، تحصد ألوف الضحايا في المواجهات والعمليات الانتحارية والمفخخات.
في كل الأحوال، ينبغي التذكير بأن داعش ليست التنظيم الوحيد في المنطقة المتفرع عن تنظيم القاعدة، والتنظيمات التي تقاتل داعش الآن، ليست بعيدة عن فكرها المتطرف. فجبهة النصرة وداعش هما وجهان لعملة واحدة، وكانتا حتى وقت قريب تتلقيان توجيهاتهما من أيمن الظواهري. الفارق بين التنظيمين ليس في الفكر بل في الأجندة. وصديق اليوم يمكن أن يكون عدو الغد. والحدود بين سورية والعراق واسعة ومفتوحة، وانتقال المتطرفين بينهما، كما أثبتت تجربة السنوات العشر المنصرمة، ليس أمرا صعبا.
المؤكد أن أجندة داعش، في هذه المرحلة أكثر طموحا، من نظيرتيها: جبهة النصرة والجبهة الإسلامية. فالأخيرتان تحصران هدفهما في تأسيس ولاية سورية، بينما تسعى داعش إلى تأسيس دولة إسلامية تحت قيادتها في العراق والشام. لكن ذلك لا يعني أن تنظيما النصرة والإسلامية، لن يوسعا مستقبلا من دائرة عملهما. فقد أعلنت جبهة النصرة مؤخرا أنها نقلت جزءاً من عملياتها إلى لبنان، وليس مستبعداً أن تلتحق بخنادق “داعش” إن هي اقتنعت بأنها ستكون الهدف التالي للحرب الإقليمية – الدولية المفتوحة على الأخيرة.
والأخطر أن نتيجة هذه الحرب ستقضي على أي أمل للتيارات المدنية السورية في المشاركة في الحياة السياسية، في حال تم التوصل إلى حل سياسي للأزمة، على ضوء ما يمكن أن يتمخض عن مؤتمر أو مؤتمرات جنيف، التي تتدثر برداء الائتلاف والجيش الحر. فما سوف يحدث في حال هزيمة داعش، هو تتويج الجبهة الإسلامية، كممثل شرعي ووحيد للمعارضة المسلحة، وسيكون لها القول الفصل في تقرير موقف المعارضة.
والسؤال الملح هنا يتعلق بما إذا كانت الجبهة الإسلامية سوف تقبل بالشعارات المُؤسِّسّةِ للثورة السورية، والمتمثلة في إقامة دولة ديمقراطية، تقوم على الفصل بين السلطات، وهي التي نشأت في مواجهتها وبالضد منها، ومن يساوره الشك فيما نقول، فليرجع لميثاق الجبهة وأدبياتها، وليتبين ما هي الفروق بين أدبياتها وأدبيات “داعش “و”النصرة”.
الأيام القادمة حبلى بمفاجآت كثيرة، وليس علينا سوى الانتظار.