في سابقة فريدة من نوعها، أكد الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ، على أهمية التواصل مع وسائل الإعلام بكل شفافية ووضوح، والقول بأن "الإعلاميين باتوا الرقيب الذي يريد الكمال للهيئة، والذراع الذي يوصلها للأهداف من خلال طرحهم المتزن".
ولا أستثني من ذلك أيضاً، رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الأستاذ محمد الشريف، الذي يتقبل الانتقادات الإعلامية بصدر رحب مهما كانت قاسية وحادة.
والنموذجان السابقان والرائعان لتعامل المسؤولين مع الإعلام، يدلان على إدراك أهمية ودور الإعلام في الرقابة على الأداء الحكومي ومكافحة الفساد والإصلاح الإداري عموماً، وإدراك أيضاً مفهوم الإعلام الحديث وعلاقته بالرأي العام وهموم المواطنين، فهو يؤدي دوراً مهماً في تعزيز منظومة مكافحة الفساد، وفي ظل ثورة المعلومات والاتصالات التي يشهدها عالم اليوم، فإن وسائل الإعلام تعتبر أداة رئيسة وفعالة في عملية المحاسبة والمساءلة.
وعلى هذا الأساس، انصب اهتمام وسائل الإعلام اليوم حول القضايا المتعلقة بإدارة المال العام مثل الموازنة وإدارة التنمية والمناقصات والمشتريات الحكومية، بالإضافة إلى دعم الجهات الحكومية والرقابية، من خلال فضحها لحالات الفساد ورصد أداء الخدمات العامة، من خلال عرض وتحليل المعلومات واستنباط الحقائق وإطلاع الناس عليها، ولذا تقتضي التعليمات في المملكة دفع المسؤولين للإجابة عن التساؤلات التي يطرحها الإعلام حول القضايا العامة.
ورغم وجود مثل هذه الصور المشرفة لبعض الجهات الحكومية وتعاملها مع الإعلام، إلا أن هناك بعض الجهات وبعض المسؤولين ما زالوا يعيشون زمن تلميع صورة المسؤول والحديث عن إنجازاته المشرفة، واعتبار أي انتقاد متزن وموضوعي للجهات التي يعملون بها بمثابة الانتقاص من شخصياتهم والإهانةً لهم.
في العام المنصرم، نشرت إحدى الصحف المحلية خبراً عن قيام إحدى الإدارات الحكومية بالتضييق على مراسل الصحيفة، الذي يعمل أيضاً في هذه الإدارة من خلال إجراء التحقيق معه في مقر عمله، وذلك بسبب نشره قضية فساد إداري (تزوير وابتزاز) تتعلق بهذه الإدارة، فقامت بتوجيه اتهامات غير لائقة وبدون دليل، بالإضافة إلى تعرّض الزميل الصحفي لمضايقات ومحاولات استفزاز وتهديد وما إلى ذلك.
وهذا السيناريو قد يتكرر في بعض الجهات الحكومية للأسف الشديد، وذلك من خلال التضييق والتهديد لكتاب الرأي والصحفيين، فقد جعلوهم هدفاً للملاحقات الاستفزازية، وربما تعرّض بعضهم إلى الاعتداءات البدنية أو الاحتجاز.
فللأسف نجد بعض المديرين والرؤساء يعتقدون بأنهم يتصرفون في دوائرهم وكأنهم يتصرفون في أملاكهم الخاصة، وهم يريدون من كل إعلامي يعمل في جهتهم أن يرضخ لهم رضوخاً تاماً، وأي انتقاد لوجهة نظر الرئيس أو لأعمال الجهة يعد بمثابة حرب على المدير أو الرئيس، وكأن لسان حالهم يقول "إنك لست أكثر من موظف عندي.. ويجب ألا تعصي لي أمراً.. حتى لو كان هذا الأمر مخالفاً للوائح والأنظمة.. فإما أن تمدحني وتلمع صورتي وإلا فاصمت واقفل فاك وإلا سوف (نسنعك) ونردعك ونكسر قلمك"!
فإذا لم يرتدع هذا الصحفي أو هذا الكاتب ويرضخ لرغبات المدير أو الرئيس، تبدأ معه أساليب التضييق والتهديد والابتزاز، وبشكل قانوني ساذج وذلك من خلال تلفيق التهم، والرجوع إلى سجل الأنظمة واللوائح، والمحاولة قدر الإمكان الاستناد حرفياً إلى نصوص هذه الأنظمة، وأخذها على الظاهر حتى ولو كانت مخالفة للمنطق مع إغفال الجوهر والهدف منها، مع التفسير التعسفي لها، حتى لا يؤدي ذلك إلى منزلق لا تحمد عقباه، أو يترتب عليه مساءلة.
وعلى هذا الأساس يبدأ البيروقراطيون بتفسير النصوص القانونية بما يتلائم مع القضية، ويكون المرتكز رغبة المدير أو الرئيس، فتكون صياغة التهم تعتمد على الفذلكة اللغوية والقانونية، ومن ذلك على سبيل المثال: إذا قام الكاتب أو الصحفي بانتقاد أعمال الجهة الحكومية، فإن ذلك يعني انتقاد سياسات الدولة والتشويش على الرأي العام، والتطاول على المسؤولين والإساءة إلى سمعة المملكة.. ومن هذا القبيل!
وإذا كان الإعلامي موظفاً في الجهة الحكومية وقد كشف قضية فساد أو مخالفة فإنه يجب أن تطبق عليه الفقرة 1 من المادة "11" من اللائحة التنفيذية لنظام الخدمة المدنية التي تنص على أنه: "يحظر على الموظف توجيه النقد أو اللوم إلى الحكومة بأي وسيلة من وسائل الإعلام المحلية أو الخارجية"، وتطبيق الفقرة ب من نفس المادة فهو لم يراع آداب اللياقة في تصرفاته مع رؤسائه (لمجرد إبداء رأيه أو فضحه لقضية فساد)، بالإضافة إلى أنه يزاول نشاطاً بعمله في القطاع الخاص (المؤسسات الإعلامية) مما يخالف الفقرة 1 من المادة 13 من اللائحة التنفيذية.
وبهذا التفسير الساذج والتلفيقي لنصوص الأنظمة، تبدأ الضغوط على الكاتب أو الصحفي وتشويه سمعتهما، فنقد الحكومة لا يعني الجهة الحكومية بالتحديد، والمقصود بالنقد هنا هو النقد الهدام والإساءة الشخصية وليس البنّاء والموضوعي، وهناك تعليمات واضحة بهذا الخصوص، كما أن نظام الخدمة المدنية قد استثنى الموظف وأجاز له بيع أو استغلال إنتاجه الفني أو الفكري، هذا من جانب. ومن جانب آخر، فإن التعامل السيئ مع الإعلام وهاجس الخوف من الانتقاد معناه الضعف وعدم الثقة في النفس وعدم تحمل المسؤولية، والسعي للحفاظ على المنصب، وكذلك التعتيم على أعمال غير مشروعة، أو الفشل في القيادة الإدارية.
إن الشفافية والمساءلة مفهومان مترابطان ويعزز أحدهما الآخر، ولا يمكن أن تتحقق الشفافية إلا عن طريق الإعلام، ومن الضروري انفتاح الجهات الحكومية على وسائل الإعلام وتزويدها بالمعلومات والحقائق لتمكينها من المساهمة في أداء دورها في الرقابة والمساءلة والكشف عن انتهاكات الأنظمة والقوانين وهدر المال العام، مع ضرورة وجود ضمانات قانونية تحمي الإعلاميين من الإجراءات التعسفية التي قد تقوم بها بعض الجهات الحكومية.