اعتبر تقرير حديث لصندوق النقد الدولي هدر الطاقة في دول مجلس التعاون أحد تحدياتها الرئيسة، وتوقع أن يكون له تأثير سلبي على نمو الاقتصاد الخليجي وعلى مستقبل الميزانيات الحكومية معاً؛ فازدياد استهلاك البترول -المصدر الرئيس للطاقة- محلياً يؤثر سلباً على الصادرات، وبالتالي على معدل النمو الاقتصادي ودخل الحكومة من تصدير النفط.

وكما هو معتاد، أوصى الصندوق برفع الأسعار المحلية للبترول لتخفيض معدلات الاستهلاك، مع إدراكه لصعوبة ذلك والآثار السلبية التي يمكن أن تنجم عن ذلك.

فهل هذا هو الحل الوحيد أو الأنجع؟ فليس خافياً أن توصيات صندوق النقد الدولي، ومثله البنك الدولي، قلما تلاقي استجابة لدى مواطني دول الخليج، الذين يرون أنها بعيدة عن اهتماماتهم، وأن المنظمتين تنظران لدول المجلس كمصدر للتمويل لمساعدة المناطق الأخرى، دون مراعاة لمصالح المنطقة. وتظل المنظمتان محل انتقاد حاد بسبب إغفالهما للتشاور مع مواطني وخبراء المنطقة، حتى حينما تعدان تقارير عن منطقة الخليج، وبالتالي تظهر مقترحاتهما كما لو كانت تُسقط إسقاطاً من مناطق أخرى.

وفي التقرير الذي أتحدث عنه يبدو الصندوق وقد بدأ بالنظر بجدية إلى دول مجلس التعاون كمجموعة متميزة، وإن كانت الحلول التي يقترحها لا تتناسب مع ظروفها الاقتصادية والاجتماعية.

فمن الصحيح القول بأن دول المجلس قد تتميز بأعلى مستويات استهلاك الطاقة في العالم، وأقلها أسعاراً، وأن معدلات استهلاكها في ارتفاع مستمر، وأن ذلك يشكل تهديداً لمستقبل الاقتصاد الخليجي.

ونعرف كذلك أن استهلاك الكهرباء في المملكة العربية السعودية يرتفع بمعدل 8 إلى 9% سنوياً، أي نحو 4 أضعاف معدل النمو السكاني ومعدل النمو الاقتصادي. ولمواجهة هذا الطلب المتزايد على الكهرباء، تعتزم شركة الكهرباء إضافة نحو (3,500) ميغاوات من الكهرباء سنوياً خلال العقد القادم، وهو ما يكفي لإنارة عدة بلدان نامية متوسطة الحجم.

وينظر البعض إلى الأسعار المنخفضة للطاقة كوسيلة لتوزيع ثروة النفط للمواطنين، مع أن فائدة التخفيض تفيد الأغنياء أكثر من الفقراء، لأنهم أكثر استهلاكاً للطاقة وتخفيض الأسعار يشملهم بصرف النظر عن حاجتهم إليه.

كيف يقترح صندوق النقد الدولي حل هذه المشكلة؟ عن طريق رفع الأسعار، كما هو متوقع. ويستشهد بدراسات سابقة تدعم هذا التوجه، خلصت إلى أن الرفع التدريجي لأسعار الطاقة سيؤدي إلى وقف الارتفاع السريع في الاستهلاك المحلي، وتحسين الوضع المالي للحكومة.

ويعترف الصندوق بسلبيات هذه التوصيات، حيث ستؤدي زيادة أسعار الطاقة محلياً إلى تأثير سلبي على الفئات الفقيرة والضعيفة اقتصادياً، ويقترح لذلك أن يتم وضع "إجراءات تعويضية" لمعالجة ذلك التأثير، وبالمثل يعترف بأن حله سيعصف بالصناعات القائمة التي تحتاج إلى تعديل هياكلها الإنتاجية للمحافظة على استمراريتها.

ولذلك، يقر الصندوق بأن التجارب العالمية تُظهر أن تطبيق السياسة التي يقترحها (أي رفع الأسعار)، يجب أن يكون "مخططا لها بشكل جيد، وتدريجية، وأن يتم شرحها بوضوح للمواطنين وقطاع الأعمال". وهو بذلك يشير إلى ما حدث في عدد من الدول التي رفعت أسعار الوقود فجأة، بناء على توصيات الصندوق نفسه.

ويتضح من ذلك، بأنه لا يمكن الاعتماد كلياً على آلية السوق وتعديل الأسعار بين عشية وضحاها، مهما كانت جاذبية تلك الحلول لعلماء الاقتصاد التقليديين، لحل مشكلة تفاقمت على مدى عقود تم خلالها ترتيب أوضاع المواطنين وقطاع الأعمال على فرضية توفر الطاقة الرخيصة. وبدلاً من ذلك، ثمة طرق مباشرة لحل مشكلة ارتفاع الاستهلاك، أكثر نجاحاً وأقل ضرراً، عن طريق التركيز على أهم مصادر الاستهلاك وهدر الطاقة، من خلال الحوافز والتوعية وتوفير البدائل، دون المساس بالأسعار مباشرة.

فلننظر للمشكلة بطريقة أخرى: في عام 2012، بلغ معدل استهلاك المملكة من الوقود (4.3) ملايين برميل يومياً من النفط وما يكافئه، استخدم نصفها في إنتاج الكهرباء. ووجد المركز السعودي لكفاءة الطاقة أن المباني (الحكومية والخاصة) تستهلك (80)% من تلك الكهرباء، نصفها في التكييف، الذي تزيد حصته في أشهر الصيف عن ذلك بكثير. وبالإضافة إلى ذلك فإن (70%) من المباني ليس بها عزل حراري، وليس هناك إلزام للمطورين بالعزل. ومعظم أجهزة التكييف المتوفرة في المملكة لا تشجع على توفير الاستهلاك، وليس معها مؤشرات لكفاءة استخدام الطاقة، وبالمثل بقية الأجهزة الكهربائية.

ومن هذه المعطيات القليلة، نستطيع أن نرى أنه يمكن تخفيض الاستهلاك بشكل ملموس بتحسين عزل المباني وكفاءة الأجهزة الكهربائية، خاصة نظم التكييف. ويمكن تحقيق ذلك من خلال بعض هذه التعديلات والحوافز البسيطة، دون رفع الأسعار:

أولاً: وضع معايير ملزمة للعزل الحراري وكفاءة الأجهزة الكهربائية.

ثانياً: تحفيز المطورين العقاريين والأفراد والجهات الحكومية لعزل المباني القائمة والجديدة وفقاً لتلك المعايير.

ثالثاً: توفير الدعم، موقتا، لتحفيز هذا التحول من خلال دعم مواد العزل، وتشجيع شراء الأجهزة الأكثر كفاءة. ويمكن أن يشمل ذلك كوبونات للمستهلك النهائي تخفض من خلالها تكلفة تلك المواد والأجهزة، متدرجة حسب درجة العزل أو كفاءة الجهاز.

ويمكن بطريقة مشابهة تحفيز شركات الكهرباء على التحول إلى تقنيات أكثر كفاءة.

فلنعد مرة أخرى إلى تقرير الصندوق، حين شخص المشكلة بدقة، ولكنه فشل في تقديم النصح الملائم. فالصندوق تعود على حل واحد هو استخدام آليات السوق والأسعار لمواجهة أي مشكلة. ولذلك لم يتردد في تقديم النصح برفع أسعار الطاقة في دول المجلس، مع إدراكه لسلبياته.

ولو أن الصندوق استطلع آراء الجهات المختصة، مثل المركز السعودي لكفاءة الطاقة ونظرائه في بقية دول المجلس، وآراء الخبراء في المنطقة، أو لو بحث في الصحف المحلية لوجد أن هناك حلولاً عملية أفضل من رفع الأسعار، تتناسب مع طبيعة المنطقة وأكثر قابلية للتطبيق، ولا تلحق الضرر بالمواطنين، خاصة الفئات الفقيرة والصناعات الصغيرة.