بعد التحاق هشام باحارث بجامعة الملك عبدالعزيز طالباً بكلية الهندسة، أهداه والده سيارة جديدة تُسهّل عليه تنقله ما بين البيت والجامعة، ولكن لم يمضِ وقت طويل على شرائها حتى تبيّن له وجود خلل ميكانيكي بأحد محركاتها، ما جعله يزور مركز الصيانة، وبعد فحصها أخبره المسؤولون بأن هذا الخلل ليس عيباً مصنعياً، وبالتالي لا يتحملون تكلفة إصلاحه، ويجب عليه أن يصلحه على حسابه الخاص.
لم يقتنع هشام بتقرير مركز الصيانة، وصعّد الأمر لمدير الصيانة، وحدد موعداً معه، وقبل أن يذهب إليه جهز كافة الأدلة التي تثبت بأن الخلل الميكانيكي ليس سوى عيب مصنعي، واستطاع بالفعل إثبات ذلك أمام مدير الصيانة الذي أعجب كثيراً بقدرة هشام على التفاوض ووعيه ومدى ثقافته الهندسية، ما جعله ليس فقط يأمر بإصلاح السيارة، بل وقدم عرضاً لهشام بأن ينضم للفريق الهندسي بمركز الصيانة، ولكن هشام اعتذر له وأخبره بأنه ما زال طالباً بالجامعة، وبعد التخرج سيفكر في أمر العمل. لكن مدير الصيانة أصر عليه، ولم يسمح لعميله هشام بالخروج من مكتبه حتى يعطيه وعداً بأن يشعره بتخرجه فور حدوثه، ووعده هشام بذلك وأوفى بوعده، وبعد تخرجه عاد هشام لزيارة مدير الصيانة بمكتبه.
يقول هشام: لم أكن أتوقع أن يكون العرض الوظيفي مجرد "مساعد سمكري" وبراتب زهيد ولكنني رغم ذلك وافقت عليه لإيماني بأنني لن أصبح مهندساً ناجحاً ما لم أكن مطلعاً على تفاصيل مركز الصيانة. وافقت رغم أن كثيراً من المهندسين الذين تم عرض الوظيفة عليهم رفضوا دون تردد، ولكن ذلك لم يؤثر في قناعتي بأن أبدأ من الصفر، بل زادني إصراراً أن أكون خارج السرب، جازماً بأنني أسير في الطريق الصحيح.
كان السر الذي لم يخبر به أحداً من فنيي وعمال مركز الصيانة أنه مهندس. جميع العاملين كانوا يعتقدون أنه مجرد عامل، ولكن هشام احتفظ بهذا السر بناءً على تعليمات الإدارة.
وبعد تنقل هشام ما بين السمكرة والدهان وأقسام الصيانة لفترة طويلة، استدعاه مدير المركز ورقاه إلى مهندس، ومن ثم بعد فترة قصيرة تمت ترقيته ليصبح مديراً لمركز الصيانة. ولشخصية هشام القيادية وإبداعه في عمله، توالت عليه الترقيات حتى تم ابتعاثه إلى مقر الشركة الأم باليابان. وعكف باليابان على دراسة علم "الكايزن" وهي كلمة مركبة من جزأين: "كاي" وتعني غيّر أو التغيير و"زان" وهي تعني الأفضل أو الأحسن، وهي طريقة وفلسفة ابتكرها السيد تاييشي أوهونو Taiichi Ohno لقيادة المؤسسات الصناعية والمالية، بل ولتطبيقها في كل نواحي الحياة، اعتماداً على التحليل والعملية.
وفي ميدان الأعمال أو الصناعات، تشير كلمة "كايزن" في العادة إلى النشاطات التي تؤدي باستمرار إلى تحسين جميع نواحي العمل، مثل الصناعة والتسيير الإداري. تعمل "كايزن" على الحؤول دون وجود الهدر. نفذت نظرية "كايزن" في عدة ميادين خلال إعادة إصلاح اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ومنذ ذلك الحين، انتشرت في ميادين الأعمال في كل أنحاء العالم.
نهل هشام هذا العلم من منبعه لفترة طويلة حتى أصبح أستاذاً ومدرباً بارعاً فيه، وهو الذي نقله إلى أرض الوطن. ومن يتصفح السيرة العملية لهشام يجدها نموذجاً لمفهوم "الكايزن"، فهو منذ بداياته سمكرياً بصيانة "تويوتا" وهو يسعى للتغيير إلى الأفضل، حتى أصبح مطمعاً لأكبر شركات السيارات بالسعودية التي تنافست عليه بعد عودته من اليابان ليعمل بين ثلاث شركات، حتى استقر مؤخراً مديراً للقطاع الغربي لشركة التوكيلات العالمية للسيارات.
لم يكن لهشام أن يتبوأ هذا المنصب لو لم يدفع ثمن الفرصة الأولى. هناك الكثير من الخسائر تكمن خلف مكابرتنا بعدم التنازل من أجل الفرصة الأولى، التي قدم هشام من أجلها الكثير من التنازلات ليحصدها في الوقت الراهن بكثير من الأرباح.
قلما نجد شاباً سعودياً يقبل أن يبدأ حياته المهنية من الصفر، فنجدهم يتذمرون من تواضع العروض الوظيفية التي تُقدم إليهم، رغم ما تخبئهُ من مناصب وظيفية كبيرة تمنحها لهم وقتما أثبتوا جدارتهم في تسلق السلالم التي ترفعهم إليها.
لا توجد بطالة حقيقية في السعودية، بل عزوف وعدم رغبة في أكثر من 8 ملايين وظيفة يشغلها المقيمون في سوق العمل السعودي، ولكننا لا نملك التواضع والشجاعة لأن نقبل بها ونجعل منها فرصة للكفاح حتى نثبت جدارتنا بالمناصب الوظيفية التي نطمح إليها.
من غير المنطقي أن ننشر بشكل دوري تقارير عن معدلات البطالة بالتزامن مع الإعلان عن حاجتنا لموظفين في كافة المجالات المهنية، والتي لا يتقدم لها أي سعودي فنستقدم لها العمالة من مشارق الأرض ومغاربها؛ والتي تأتي لتؤكد لنا بأن كل ما نعانيه هو مجرد بطالة وهمية تسكن عقولنا فقط.
لكي نصل إلى وظيفة أحلامنا يجب علينا أن نؤمن بأن الخسائر التي نرضى بها ثمناً للفرصة الأولى ستعود علينا بكثير من الأرباح، أرباح لا يحدها سقف أو نهاية.