ما إن تدلف أي مكتبة تجارية في أميركا أو أوروبا الغربية، حتى تجد كتب الرواية بكافة أنواعها تحتل مساحة واسعة من المكتبة، ورغم تعدد فنون الرواية من عاطفية أو "بوليسية" أوغيرهما إلا أن أغلب المعروض هو من جنس معين من الرواية يطلق عليه: روايات "الخيال العلمي" Science Fiction، وهو المعاكس تماماً لما يوجد في مكتباتنا العربية!
وقد يعتقد البعض أن هذه الروايات بالضرورة تعتمد على أحداث خيالية وبعيدة عن الواقع، وهو وإن كان صحيحاً في بعض الروايات إلا أنه افتراض لا يمكن تعميمه، ذلك لأن روايات "الخيال العلمي" جنسٌ أدبي يعتمد على النظريات العلمية وأثرها على الإنسان أو الكائنات الخيالية، لذا قد يبتكر الرواي عالماً حقيقياً وينطلق منه اعتماداً على أحداث غريبة أو غير متوقعة، فهي مشتقة من الكلمة اللاتينية fantasticus؛ المشتقة بدورها من اليونانية phantastikos التي تعني "القدرة على خلق الصور"، لذا غالباً ما يكون نتاج "الخيال العلمي" متسقاً مع الاتجاه العام للنظريات العلمية ونواميس الطبيعة، دون إغفال لمحاولة تجاوزها بالأفكار الجديدة والفرضيات المبتكرة، وقد يستعين البعض بشيء من القوى السحرية أو ما وراء الطبيعة، حينها تتحول الرواية إلى مستوى آخر من "الفنتازيا"! ويكمن جمال هذا النوع من الروايات في احتوائها على مساحة لا بأس بها من الحقائق العلمية، والمغامرات المتلاحقة التي تحبس الأنفاس، وتجعل القارئ متشوقاً لالتهام الصفحات الواحدة تلو الأخرى، والحقيقة أن أفضل تعريف جامع مانع لها هو ما قاله "هوجو جيمزباك" الأب الروحي المعاصر لروايات الخيال العلمي وناشر أول مجلة في هذا المجال: "خيال ممزوج بالحقائق العلمية والرؤية التنبؤية، وبالذات هو ما يكتبه جول فيرن وهـ. ج. ويلز"، وهما كاتبان كان لهما الفضل الكبير في تدشين هذا الفرع السردي، وترويجه بين جمهور القراء.
والعجيب في الأمر أن المحاولات العربية لروايات الخيال العلمي قد بدأت مبكراً، كما في بعض قصص "ألف ليلة وليلة" الحافلة بالسفر عبر المجرات والمخلوقات الأسطورية، و"حي بن يقظان" لابن طفيل، وكذلك قصة "فاضل بن ناطق" لابن النفيس، التي تعتبر رواية "خيال علمي" بامتياز، إذ تتحدث عن إنسان يتشكل من الماء في كهف ما ثم يروي رحلته في الحياة، حتى يصل في النهاية إلى التعرف على الخالق سبحانه وتعالى.
إلا أن واقع الساحة العربية الحالي يفصح عن فقر شديد في الخيال العلمي، سواء على مستوى القصص القصيرة أو الرواية، ويأتي على رأس القائمة الكاتب نهاد شريف –رحمه الله- الذي يعد رائد هذا المجال عربياً، ومن القلائل الذي تخصصوا فيه ولم يطرقوا أنواعاً أدبية أخرى، ومن أشهر أعماله روايته الأولى "قاهر الزمن" التي تحولت إلى فيلم سينمائي، يعتبر الأول من نوعه عربياً، كما أصدر "رقم أربعة يأمركم" و"سكان العالم الثاني" و"الشيء" ورواية "ابن النجوم".. وهناك الدكتور نبيل فاروق الذي تميز بطرقه أغلب "ثيمات" الخيال العلمي عبر سلاسل كتب الجيب، وهناك من الجزائر الأديبة صافية كتوط، التي قدمت "المحققة الفضائية" و"القمر يحترق". ومن المغرب أحمد عبدالسلام البقالي صاحب رواية "الطوفان الأزرق"، أما في الساحة السعودية فلم أطلع سوى على إنتاج الكاتب الدكتور أشرف إحسان فقيه، الذي أصدر مجموعات عدة هي "صائد الأشباح" و"حنينًا إلى النجوم" و"نيف وعشرون حياة"، رغم وجود كثير من المحاولات الفردية لشباب سعوديين على صفحات الإنترنت لم يكتب لها الانتشار، ولم يكتب لهم الاستمرار.
وللأسف لا يزال ينظر إلى هذا النوع من السرد بشكل دوني في أوساطنا الثقافية، وكأنه لا يمت إلى الأدب بصلة! وقد يعود سبب ذلك إلى ارتباط مفهوم "ثيمات" الرواية والقصة لدينا بالمواضيع الإنسانية الشائعة والمعتمدة على الواقعية في طرح القضايا، دون إدارك أن الاستفادة من خيالات العلوم المختلفة سوف تفتح مزيداً من الآفاق والمساقات للكاتب نفسه، بينما يعتقد البعض أن سبب ابتعادنا إلى كوننا في الوقت الحاضر مستهلكين لإنتاجات العلوم ولسنا منتجين لها! ناهيك عن أن ظهور مثل هذه التجارب الأدبية يكون نتيجة مباشرة لازدهار بيئة البحث العلمي في الوطن العربي، وغني عن القول أن البحث العلمي وحركة العلوم في منطقتنا تثير الشفقة، وتحتاج مزيداً من الدعم الحكومي وكثيراً من المبدعين في كافة المجالات.
غير أن إحدى التحديات التي تواجه المهتمين بالخيال العلمي تكمن في الأدباء أنفسهم، لأن هذا النوع من السرد الأدبي يحتاج أن يكون الأديب في تواصل مستمر مع التطورات والمستجدات العلمية المتلاحقة، وأن يعتمد في خياله على ذخيرة علمية عميقة، وفي بعض الحالات أن يكون مختصاً في فرع علمي دقيق، مما يساعده على جمع خيوط حبكته من الناحية العلمية أولاً فالهدف ليس فقط تقديم القصة في إطار معلوماتي جاف بل من الواجب –أيضاً- أن تكون الحقائق العلمية صحيحة ويعتد بها لتتحول الرواية في نهاية المطاف إلى وجبة علمية مفيدة ومسلية في آن واحد.
لذا فإن الخطوة الأساسية تبدأ مع دعم المؤسسات الحكومية وجمعيات النفع العام للكتاب الشباب المهتمين بهذا المجال، وأن يتنوع الدعم بحيث يشمل تطوير البناء الفني للقصة، وكذلك تقديم الاستشارة والمراجعة العلمية للحقائق والنظريات الواردة في النص الأدبي، بالإضافة إلى التركيز على ترويج وتسويق هذا المنتج الذي سوف يرفع الذائقة الأدبية لشبابنا، ويحقق ثقافة علمية إضافية لدى جمهور القراء.
ولعله من جميل الصدف أن مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية دشنت قبل أيام مشروعاً مميزاً لنشر كتب علمية باللغة العربية، وكان أن أطلقت عليه مشروع "ثقافتك". وهو مشروع علمي طموح نحو إثراء المكتبة العربية في العلوم الأساسية، ولكن كم كنت أتمنى أن تحتوي هذه القائمة المنشورة على شيء من الخيال العلمي، ولو حتى كتاباً واحداً يجمع شتات منتوجنا السعودي في هذا المجال بعد مراجعته من العلماء والمختصين، حينها فقط أستطيع أن أقول إننا بدأنا في خطوة الألف ميل نحو خيال علمي، يكون خطوتنا الأولى نحو نهضة علمية حقيقية.